القوانين الأميركية في المعتقلات العراقية محمود المبارك اللقاء الذي أجرته صحيفة «الحياة» يوم السبت الماضي مع القائد العام لإدارة المعتقلات الأميركية في العراق، الجنرال دوغلاس ستون، يؤكد من جديد بُعدَ الإدارة الأميركية - بشقيها السياسي والعسكري - عن فهم الجانب القانوني لحقيقة الوجود الأميركي في العراق. ذلك أن المسؤول الأول عن المعتقلات التي تديرها الولاياتالمتحدة داخل دولة «ذات سيادة»، قد قدم - من خلال لقائه الصحافي - شهادةً أخرى تؤكد التخبط القانوني للقيادة العسكرية الأميركية في العراق، حين اعترف بوجود أكثر من 22 ألف معتقل عراقي في المعتقلات الأميركية وحدها، بينهم عشرات النساء ومئات الأحداث. بيد أن ما تقوم به قوات الاحتلال الأميركي من احتجاز ومحاكمة عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين، داخل دولة «ذات سيادة» أمر يصعب تبريره من الناحية القانونية! وعلى رغم الفضائح التي لحقت بالقوات الأميركية جراء انتهاكاتها القانونية الصارخة في السجون العراقية، والتي لا يعرف لها نظير في التاريخ الإنساني المقروء أو المسموع، كفضيحة سجن «أبو غريب»، إلا أنه يبدو أن الغرور الأميركي لا يزال يصر على مواصلة مسيرته المجحفة في حق الأمة العراقية. فقد أكد المسؤول العسكري الكبير أن ما تقوم به قواته في المعتقلات التي أقامتها في طول البلاد وعرضها لا يتعارض مع القوانين الدولية والمحلية. ورداً على سؤال ذكي من المحاور الذي أراد معرفة الأساس القانوني الذي بموجبه تزج قوات الجنرال الأميركي بأفراد الشعب العراقي في المعتقلات الأميركية داخل دولة «ذات سيادة» من دون اتهامات، زعم المسؤول العسكري أن «قرار مجلس الأمن» يخول له ذلك. ومع تقديري للعقلية العسكرية التي لا تعير القانون الدولي كثير اكتراث، إلا أن الرجل الذي أقحم القانون الدولي في حديثه، ربما كان عليه أن يتريث بعض الشيء قبل أن يزج بنفسه في مَهَامِهِ القانون الدولي وسَرَادِيبِه! فحديث الجنرال - الذي بدا في العقد السابع من عمره - أثار تساؤلاً عندي عما إذا كان سيادته يتذكر أن إدارة رئيسه كانت ضربت عرض الحائط بمجلس الأمن ومنظمته الدولية ومن فيها حين قررت غزو العراق، أم أنه يريد أن يأخذ من «الشرعية الدولية» ما يتناسب مع عقلية إدارته فحسب؟ وهل يعي الخبير - الذي زادت خبرته العسكرية على ثلاثة عقود - أن قرار مجلس الأمن رقم 1483(2003) - والذي يبدو أنه يشير إليه - إنما يُحَمِّلُ الولاياتالمتحدة وبريطانيا - كونهما دولتي احتلال - المسؤولية القانونية بموجب القوانين الدولية بما في ذلك اتفاقات جنيف لعام 1949، واتفاق لاهاي لعام 1907، والذي أرجو أن يكون الخبير الأميركي كلف نفسه عناء قراءته؟ لست أدري ما إذا كانت الاتفاقات الدولية تغيرت من دون علمي ومن دون علم أحد سوى الجنرالات العسكريين! ولكن كم تمنيت أن يشير الخبير الأميركي - ولو إشارة عابرة - إلى أرقام المواد القانونية في تلك الاتفاقات التي تجيز لقواته أن تعتقل المواطنين لأعوام طوال - كما أقر هو بذلك - من دون تهمة قانونية واحدة! وكم وددت لو أخبرني القائد عن أرقام مواد اتفاقية جنيف التي سمحت له باستخدام أساليب التعذيب في معتقلاته، سواء في الماضي أو الحاضر، بحسب شهادات من أفرج عنهم من المعتقلين، والتي لا يوجد دليل على أنها توقفت حتى هذا اليوم! وفي الوقت ذاته، لعل سعادة الجنرال قد توافر لديه من الوقت ما يكفي منذ ظهور فضيحة سجن «أبو غريب» حتى الآن، ليسعفنا بالحجة القانونية الدامغة التي تبرر عدم محاكمة كبار المسؤولين العسكريين (وليس صغارهم) عن «جريمة العصر الأخلاقية»، فقد أعياني البحث عن اكتشاف وجود مواد تجيز لهم ذلك في اتفاقات جنيف 1949! كما تمنيت لو بيّن لنا سعادة الجنرال أثناء حديثه عن القوانين الدولية، المرتكز القانوني الدولي الذي يبيح قتل المدنيين الأبرياء، بمن فيهم الأطفال بحسب ما اعترف به محاربون أميركيون، أعطوا أسماءهم الحقيقية ورتبهم العسكرية، لمجلة «ذي نيشن» الأميركية في عددها الصادر شهر تموز (يوليو) الماضي. إذ جاء ضمن تلك الاعترافات قول أحدهم إنه ربما قام بقتل أي شخص لمجرد أن طريقة نظرته لا تعجبه، بدعوى أنه كان يهدد أمنه! وهل ما اعترف به جندي آخر في الوثيقة ذاتها، من أنه وزملاءه كانوا يقتلون المدنيين ثم يضعون أسلحة إلى جانب جثثهم ليتم تصويرهم على أنهم إرهابيون، له ما يسنده في القوانين الدولية بحسب اطلاع الجنرال الموقر؟ أم أن ما قام به جندي أميركي من «نبش دماغ أحد القتلى بملعقة بعد أن أطلق الرصاص على رأسه، وهو ينظر إلى الكاميرا ويبتسم» بحسب رواية زميل له في تصريحاته للمجلة الأميركية ذاتها - والتي أطلقت عليها «وثيقة الخزي الأميركية» - لا يستحق محاسبة قانونية بموجب الأعراف والقوانين الدولية؟ وإذا كانت هذه بعض اعترافات الجنود الأميركيين انفسهم، فكيف بما لم يصرح به؟ واقع الأمر، أنه في الوقت الذي كان يجب فيه على أي مسؤول عسكري أميركي أن يطأطئ رأسه خجلاً من الجرائم والفضائح الأميركية غير المسبوقة في أبي غريب وغيرها، إلا أن الكبرياء الأميركية تأبى على أصحابها إلا أن تظهر في أجلى صورها! ولكن، كما أنه من أبجديات المعرفة العسكرية، أن للمرء الحق في أن يرد بإطلاق الرصاص على من يفتح عليه النار، فإننا بالمفهوم ذاته، نزعم أن لنا الحق في أن نفتح مدافعنا القانونية على من يستخدم لغة القانون ضدنا! المثير للسخرية حقاً هو ما ختم به الجنرال لقاءه، في إجابته على سؤال يتعلق بإمكان تسليم المعتقلين «الأجانب» إلى بلادهم، إذ قال: «نحاول إعادتهم إلى بلدانهم، ولكن بعدما نتأكد من أنهم لن يتعرضوا للأذى أو التعذيب»! وإذا كان الأمر كذلك، فإني أحب أن أطمئن سيادته الى أن الدول العربية منفردة ومجتمعة لا تجرؤ على منافسة «القوانين الأميركية في المعتقلات العراقية»، كالتعذيب الأميركي الذي رآه العالم بأسره في «أبو غريب» من إهانة المعتقلين بتعريتهم واغتصابهم جنسياً، وتسليط الكلاب عليهم وهم عراة، ثم القيام بعد ذلك بالتبجح بالإعلان عن هذه الفضائح ونشرها في فضائيات العالم أجمع. فالولاياتالمتحدة في هذا الجانب لا تزال سباقة كعادتها، ويجب الإقرار بصعوبة منافستها في هذا المجال! وكما يقال في الأمثال «العين لا تعلو على الحاجب»! عن صحيفة الحياة 5/5/2008