حذارِ الاهتراء سليم الحص كنا نخشى، كما كان كثيرون، أن يؤدي الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى إلى تفجير أمني في لبنان لا تُعرف أبعاده. لم يحصل ما كان متوقعاً والحمد لله. بقي الوضع الأمني هادِئاً نسبياً بفضل وَعي المواطنين وإرادة بعض القيادات السياسية وتصميم من الجميع على عدم العودة إلى أجواء الاقتتال المتمادي التي سادت خلال الحرب الأهلية على امتداد خمسة عشر عاماً، ما بين 1975 و1990.
كانت هناك محاولات متكرّرة لإشعال فتنة بافتِعال صدامات مسلّحة في مناطق حسّاسة. ولكن هذه المحاولات تمّ إحباطها بفضل إرادة الناس عموماً والدور الفاعِل الذي قامت به قوى الجيش ومعها القوى الأمنية. وقد خيّب الجيش، بفضل قيادته المتميّزة، رهان ذَوِي المآرب الخبيثة على انفراط عقد المؤسسة العسكرية بفعل الضغوط الفئوية التي يتعرّض لها المجتمع. فبقي الجيش متماسِكاً وفعّالاً، على العهد به.
هل هذا الواقع مدعاة للاطمئنان والاسترخاء؟ كلاّ ثم ألف كلاّ.. فالواقع العام يبقى هشاً، عُرضة للاشتعال في أي لحظة في حال عدم الاستمرار في التِزام جانب الحذر الشديد. فأعداء لبنان ما زالوا ماثِلين، وهم يتربصون به شراً. وفي مقدمة هؤلاء “إسرائيل"، التي تتستر بالموقف الأمريكي. ومع أن استمرار الهدوء، ولا نقول الاستقرار، الأمني ما زال قائماً، فإن الوضع العام آخذ في التآكُل، وهو عرضة للاهتِراء مع الوقت في غياب دور فاعل للدولة، وذلك على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وفي نهاية المطاف قد لا يسلم أمنياً.
الاهتِراء، من جراء السلطة غير الفاعلة، ماضٍ في سبيله بِلا هوادة. ويتجلى ذلك على الصعيد الاقتصادي كساداً عارِماً يعمّ الأسواق وتعثر أعداد متزايدة من البيوتات التجارية والصناعية والسياحية، وانعِكاس ذلك سلباً على أوضاع بعض المصارف، وتقلّص منسوب الإنتاج عموماً في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتأثير ذلك سلباً على ميزان لبنان التجاري مع الخارج وعلى بعض عناصر ميزان المدفوعات الحيوية، وأهمها التدفقات المالية ومردود حركة السياحة.
وكان لكل ذلك تداعيات على الوضع الاجتماعي تجلّت في تعاظُم مدّ الهجرة إلى الخارج، ولا سيما في صفوف الشباب، وفي هذا ما فيه من حرمان للاقتصاد الوطني من طاقات إنتاجية مثمرة، ولو أن الهجرة الجارِفة كان لها مردود إيجابي من حيث أنها حالت دون بقاء الشباب ضحية بطالة تجعل منهم عالَة على المجتمع، كما أنها فتحت أمام هؤلاء الشباب أبواب العمل المنتِج في الخارج فأتاحت للمجتمع مصدراً جديداً للدخل عبر تحويلات العاملين في الخارج إلى عائلاتهم وذويهم في لبنان. ومن مظاهر الاهتِراء الاجتماعي تزايد واقع الفرز الفئوي بين المناطق، الأمر الذي يتهدد مع الوقت وحدة المجتمع وبالتالي وحدة الوطن. ولعل من أخطر مظاهر الاهتِراء اعتِياد الناس على عدم وجود سلطة، الأمر الذي يمكن أن يؤدّي إلى تعقيد مساعي إحياء السلطة الواحدة، وفي نهاية المطاف تهديد وحدة المجتمع والدولة.
وفي حال استمرار الحال التي تسيطر على البلاد، فإن لبنان مقبل على مواجهة واقع جديد أخطر ما قد يجرّ إليه حلول موعد الانتخابات النيابية في عام ،2009 من دون أن تكون ثمة إمكانية لإجرائها سواء بسبب أن الحكومة القائمة، والتي يطعن نصف اللبنانيين في شرعيتها ودستوريتها وميثاقيتها، لن تكون قادرة على قيادة العملية الانتخابية، أو بسبب الرفض شبه الشامل لقانون الانتخاب الساري المفعول، أي قانون العام ،2000 في وقت يتعذر استصدار قانون جديد يحظى بالتوافق ومجلس النواب لا يجتمع فيما الوضع الحكومي متعثر. بذلك فإن لبنان مرشح، في حال استمرار الأزمة لا قدر الله، لأن يغدو البلد الوحيد في العالم من دون دولة: حيث لا رئيس للجمهورية ولا مجلس نواب وحكومة بتراء مطعون في شرعيتها. هذا واقع رهيب سيكون مفتوحاً على كل الاحتمالات.
وعملية الفرز الفئوي بين المناطق تصبّ في مصلحة مشاريع فدرلة لبنان وبالتالي تقسيمه على قواعد مذهبية وطائفية. ونحن نرى في مشاريع الفدرلة فاتحة للاقتِتال الفئوي المفتوح إذ يستحيل الصراع الفئوي حرباً على الحدود بين الكيانات الفئوية المتنافسة. وستكون حرباً على الشارع والحي والقرية. هذا ناهيك باستحالة جمع طوائف معينة في كيان واحد عملياً نظراً لتبعثُر أبناء هذه الطوائف في شتى المناطق اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
ومن المسلمات أن الاهتِراء كان سيبلغ حدود الانهيار الشامل لولا عاملان على الأقل: الفورة النفطية وهجرة الشباب إلى الخارج. فالفورة النفطية، الناجمة عن تصاعد حاد في أسعار النفط إلى أكثر من أربعة أضعاف ما كانت عليه من مستوى قبل بضعة أشهر، أنتجت فوائض مالية في الدول المصدرة. كان لبنان مؤهلاً لتلقف شطر معين من هذا الدفق المالي إن على شكل إيداعات مصرفية أو استثمارات عقارية وصناعية وسياحية وخلافها.
ولكن لبنان، في حال التأزّم الشديد التي تهيمن عليه، لم يصب من مردود هذا الدفق سوى النزر اليسير جداً. وقد نال منه الأردن وسوريا نصيباً أوفر على ما يظهر جلياً. إلا أن هذا النزر كان كافياً للمساعدة على الحؤول دون الانهيار الشامل. ومن المفارقات أن بعض المؤشرات الرقمية الاقتصادية والمالية والنقدية، مع حدّة الأزمة المستمرة، كانت إلى حد ما إيجابية، كذلك كانت القيم العقارية وبعض الأسهم المتميزة من مثل سهم شركة سوليدير. فالعملة اللبنانية حافظت على استقرارها في مقابل الدولار، مع أن الدولار سجل في المرحلة الأخيرة تراجُعاً ملحوظاً. ومجموع الودائع المصرفية سجل بعض الزيادة. ولكن هذه المؤشرات لم تكن لتنمّ عن تحسن حقيقي في الحركة الاقتصادية وإنما كانت بمثابة الفقاقيع التي يمكن أن تتلاشى وتنقلب إلى نقيضها. فالنمو الاقتصادي لا يستقيم ويدوم إلا على دفق استثمارات مالية ولا يتحقق إلاّ في ظل ثِقة وطيدة بمستقبل البلد والاطمئنان إليه. وهذا ما يفتقده لبنان في ظل الأزمة المتمادية.
فهلاّ وعينا هذا الواقع وارعوينا عن غيّنا. والتعبير عن ذلك يكون بتجاوز الصغائر والمسارعة إلى حلّ نهائي حاسم للأزمة المستحكمة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 3/5/2008