الإعلام والمعتقل علي عقلة عرسان صحوت صباح اليوم على سامي الحاج ، مصور الجزيرة ، نزيل سجن غوانتانامو ، ابن السودان ، طليقاً يتحدث من الخرطوم بعد اعتقال تعسفي على الطريقة الأميركية استمر ست سنوات ونيف ، بتهم لم يحاكم عليها تمتد من الإرهاب والانتماء إلى القاعدة إلى الجريمة " الإعلامية " المنظمة الهادفة إلى كشف الحقيقة للناس بالصورة. ست سنوات ونيف ذاق خلالها الحاج ومن معه من نزلاء ذاك السجن الأسطورة لطخة العار في جبين الولاياتالمتحدة الأميركية وما يسمى العالم المتحضر صنوف العذاب ولحقت به وبأسرته/ بهم وبأسرهم، المآسي والويلات. كنت في الخرطوم والجزيرة عدة مرات فهل تراني رأيت هذا الرجل؟ أستبعد ذلك، لكنني أشعر أن حالته لازمتني وبأنه قريب إليّ بوصفه إنساناً يحمل رمزية عذاب وظلم ووحشية وقهر تمارسها دولة أصبح ديدنها التهديد والعدوان والكذب والابتزاز.. ليس هذا المصور حالة فريدة فكم في هذه الدنيا من أشخاص تحملوا أضعاف ما تحمل هو من جزائريين في عهد الاستعمار الفرنسي وفلسطينيين في العهد العنصري الصهيوني وفيتناميين وروس.. إلخ ولكن لم يقرّبهم الإعلام إلينا كما قرّب هذا الرجل .. فالإعلام يصنع وقائع وحقائق ويكشف المخفي منها أيضاً. تمر بك لحظة نادرة تسترعي اهتمامك زمناً وتصبح لحظة طاغية تلخص زمناً.. ولحظة هذا المصور أصبحت طاغية ، وقد صنعها الأميركي الطاغية والإنسان الضحية والإعلام المثابر ، وهي لحظة موحية تقرأ من خلالها أحداثاً ووقائع ومشاعر بشرية بلا ضفاف .. وتجعلك تغوص في روايات متناقضة عمن يصنع الإرهاب ويمارسه ومن يتهم آخرين به ، وتدخل عالم تجار الحروب والسياسة وأصحاب المشاريع العدوانية الكبرى ، وتتعرف على معاناة لا توصف وخضم مشاعر بشرية زاخر ، وتواجه نفسك ومن حولك بأسئلة لا أجوبة مقنعة لها، أسئلة من نوع: ما هو الإنسان؟ كم يحتمل من الآلام وكم يتجدد احتماله لها ، ولماذا يتعرض لذلك؟ ولم يكون أشد وحشية من كل وحش ويفسد كمستنقع آسن ينشر الوباء في حالات، ويتجلى طاقة روحية وجسدية وإنسانية نقية تواجه الوحشية والفساد والإفساد والوباء في حالات أخرى؟ إن الألم الذي يسببه جرح أو داء وبيل أو حادث يصيب عضواً أو أعضاء من الجسد، يضع الإنسان أمام معاناة حادة ترهق جسمه وأسرته، أما الألم الناتج عن تعذيب وظلم وحجز للحرية فيضيف إلى آلام الجسد آلام روح ونفس، ويغرق الإنسان في قهر لا يجد له مسوِّغاً، ويفتح أمامه صفحات أسئلة وصفحات حساب تعتمل في النفس وتنشد الاقتضاء.. وفي الأحوال جميعاً يدفع هو أو الآخر الثمن، ويستمر فعل ورد فعل قاتمان مؤلمان داميان يسممان حياة الإنسان ولا يليقان بكرامته.. ويجر كل ذلك على أبرياء عواقب وخيمة قد يدفعون فيها حياتهم لا لشيء إلا لأنهم بمتناول العراك بهذه الصورة أو تلك. والمضحك المبكي أو أول ما ينسى وأكثر ما ينسى هم الضحايا الأبرياء.. وقد يرفع المجرم قبعته في نهاية سنة أو عقد أو قرن من الزمن ليقول: نأسف لأنهم ماتوا من دون سبب.. وقد يرفض المجرم حتى أن يفعل ذلك شأن الاستعمار الفرنسي وضحاياه في الجزائر وشأن الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني الذي ارتكب ويرتكب آلاف المجازر من هذا النوع ليس آخرها قتل أم وأربعة أطفال لها في بيت حانون ولا حصار كامل لمليون ونصف مليون إنسان في غزة يسبب الألم والقهر والموت. هل يمكن تجنب الألم؟ لا.. لا أظن ذلك، الألم مواكب للحدث ، والحدث المؤلم كما الحدث المفرح يلازمان حركة الأحياء، والحياة حركة .. والحركة منتج من منتجات الحياة ودليل عليها وعامل حيوي في الاستمرار والتغيير.. ومن ثم قد يكون الألم إحدى ضرائب الحياة وبعض مستلزماتها.. من ألم الحب إلى ألم القلب والموت قهراً. ولكن الألم المقترن بالإهانة والظلم والتعذيب ومصادرة الحرية والافتراء.. ألم فظيع. ليس المعتقل الذي أشرت إليه بدعة في بابه أو أسطورة ساهم التخييل في تضخيمها أو حالة نادرة لا نظير لها في عالم المعتقلات والسجون ، ولا هو كذلك في من يجلب إلى المعتقلات من أنحاء العالم من المظلومين والمضطهدين والمقهورين أو المقاتلين من أجل الحرية ممن قالوا ويقولون للإدارة الأميركية .. لا، فهناك عشرات الآلاف ممن قضوا سنوات مرة في سجون أميركية مثل " أبي غريب وغوانتنامو وسواهما كثير"، ومن تحملوا ما لا يطاق مدة ثلاثين وعشرين سنة ونيف في سجون النازية الجديدة في فلسطينالمحتلة، سجون الكيان الصهيوني، وبعض أولئك خرج من المعتقل إلى المقبرة.. وهناك في الذاكرة معتقلات وسجون يعرفها الجزائريون الذين قاتلوا فرنسا من أجل الحرية، ويعرفها الفيتناميون والروس وغيرهم وغيرهم كثير. وهناك سجون تتكاثر في طول بلدان العالم وعرضها، ولكن سجناء الحرية لمعاناتهم طعم مختلف والموقف من قضاياهم متمايز عن سواه، والنظرة إليهم يجب أن تكون مغايرة في المعيار والتقدير والحكم.. ومعتقلات الصهاينة في فلسطينالمحتلة والأميركيين في أنحاء من العالم تعج بمعتقلين هم مناضلون من أجل الحرية، طلاب استقلال وكرامة لبلدانهم وشعوبهم، مقاتلون ومقاتلون محتملون يدافعون عن أنفسهم ويدفعون العدوان عن أنفسهم وأطفالهم.. يعملون على حماية مقومات وجودهم.. وتلك معتقلات لا نظير لها إلا معتقلات النازية مع فارق كبير جداً لا يؤخذ بالاعتبار ولا بد من ملاحظته والتركيز عليه، وهو إن سجون النازية ومعتقلاتها دامت ثلاث سنوات ونيف في ظل حرب عالمية ومعتقلات الصهاينة في فلسطين تستمر منذ ستين سنة ويقضي فيها الشخص أكثر من ثلاثين سنة، ولا يسمع بقصته أحد ولا يتحرك ضمير بالاحتجاج على هذا الوضع الذي لا يطاق.. بينما يتراكض رؤساء دول حاليين وسابقين من أجل إطلاق سراح جندي صهيوني يكلله عار العدوان ويداه وأيدي قادته ملطخة بدم الفلسطينيين.. فأي عالم وأي عدل وأية إنسانية؟؟ قد يكون السجن ضرورة لأن المجتمع يحتاج إلى حماية من مجرمين أياً كانت درجة إجرامهم فهي ضارة به وخطرة على أمنه واستقراره وتقاليده وحياة أفراده وممتلكاتهم، ولكن الاعتقال التعسفي والتعذيب والقهر والتحقير والإزراء بالإنسان لا يمكن أن يكون لأي منها ضرورة، سواء أكان ذلك في حال الاعتقال السياسي وصراعات السلطة والمعارضة أو في حالات أخرى يرى وجاهتها أولو الأمر والنهي ممن قد يضعون أنفسهم فوق الإنسان.. ولكن الاعتقال التعسفي وأخذ الناس على الشبهة، وإبقاء الأشخاص قيد الاعتقال لأشهر أو سنوات من دون محاكمة.. ثم تقديم ذرائع لهذا التصرف لا تقنع حتى أصحابها ولا تعوض من وقع عليهم الظلم هو عار بذاته يتجرع كأسه أناس ثم يديرون الكؤوس مع الزمن، فيشرب العلقم بدورهم مستحقون وأبرياء.. وتبقى غصة السؤال الكبرى: ما ذنب الأبرياء، وكيف نعوضهم عن معاناتهم الفظيعة.. وهي تمتد من الضحية إلى أصوله وفروعه في بعض الحالات؟ سمعت عن لحظات نادرة تجمع أباً بابن أبعدهما المعتقل أحدهما عن الآخر ولم يستقر بهما المقام معا وقتاً كافياً ليغرف أحدهما صورة الآخر ويتشربها ويتمثَّلها ويسكِنها قلبه وذاكرتَه ووجدانه.. وسمعت عن معتقلين مات ذووهم ولم يتمكنوا من المشاركة في تشييعهم، وسمعت وسمع الناس قصصاً ومآسي اجتماعية نتيجة تلك الأوضاع.. مما جرى ويجري بسبب الاعتقالات والتعامل مع المعتقلين في معتقلات بصرف النظر عن أماكن وجودها وهويتها.. هذه ليست حالات نادرة، ولا حال ابن سامي الحاج السوداني وزوجه الأذربيجانية حالة نادرة هي الأخرى.. ولكن سلاح العصر الإعلامي قدمهما على هذا النحو فصارا ندرة موقف وحالة وصورة.. إن وفاء الجزيرة لمنتسبيها يستحق التنويه به، ولكن من واجب الإعلام أن يقدم ما في المعتقلات والسجون الكبرى من معاناة وأن يناصر من لا يصل صوتهم ولا يعرف الناس حقيقة قضاياهم، وأن يقف مع العدل والقيم والحرية والإنسان.. فتلك رسالة تستحق أن تُجنَّد لها الأقلام والقدرات والأموال ، وأن يتجنّد الأفراد والمؤسسات لخدمتها .. فهل نتطلع إلى عام أو عقد من الزمن يخصص للإعلام والمعتقل؟ عن صحيفة الوطن العمانية 3/5/2008