البيتكوين يواصل الارتفاع الطفيف متجاوزًا حاجز 103 آلاف دولار    ترامب يعلن التوصل لاتفاق بين الهند وباكستان يقضي بوقف إطلاق النار    محمد صلاح يكشف حقيقة خلافه مع ساديو ماني    «الإحصاء»: 1.3% معدل التضخم الشهري خلال أبريل 2025    قرار تأديب القضاة بالسير في إجراءات المحاكمة لا يعتبر اتهام أو إحالة    بريطانيا.. فوز «الإصلاح» تغيير فى المشهد السياسى    وزير الخارجية والهجرة يترأس الاجتماع الوزاري الرابع للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان    صراع ثلاثي بين عاشور ومنسي وفيصل على لقب هداف الدوري المصري    ضبط سائق أطلق أعيرة "رش" على كلاب ضالة في مصر الجديدة    38 درجة فى الظل.. الأرصاد تحذر المواطنين من الوقوف تحت أشعة الشمس    تأجيل محاكمة متهمي خلية "ولاية داعش الدلتا" ل 24 يونيو    تفعيل المسرح المتنقل والقوافل للوصول بالخدمات الثقافية لقرى شمال سيناء    وصول جثمان زوجة محمد مصطفى شردى لمسجد الشرطة    مهرجان SITFY-POLAND للمونودراما يعلن أسماء لجنة تحكيم دورته 2    مديرية أمن القاهرة تنظم حملة تبرع بالدم بمشاركة عدد من رجال الشرطة    لجنة الصحة بالبرلمان: موازنة الصحة الجديدة هى الأكبر فى تاريخ مصر    بيتر وجيه مساعدا لوزير الصحة لشئون الطب العلاجى    طريقة عمل الكيكة بالليمون، طعم مميز ووصفة سريعة التحضير    الحكومة المكسيكية تعلن أنها ستقاضي "جوجل" بسبب تغيير اسمها إلى خليج المكسيك    رئيس صحة النواب: مخصصات الصحة في موازنة 2026 الكبرى في تاريخ مصر    وفود دولية رفيعة المستوى منها عدد من وفود منظمة (D-8) تزور متحف الحضارة    محافظ أسوان: توريد 170 ألف طن من القمح بالصوامع والشون حتى الآن    العربى للعدل والمساواة يقترح رفع القيمة الإيجارية فى قانون الإيجار القديم    شئون البيئة: التحول للصناعة الخضراء ضرورة لتعزيز التنافسية وتقليل الأعباء البيئية    وزير الخارجية يترأس الاجتماع الوزاري الرابع للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان    جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي الترم الثاني بالأقصر    رئيس الوزراء العراقي يوجه بإعادة 500 متدرب عراقي من باكستان    جامعة أسيوط تُشارك في ورشة عمل فرنكوفونية لدعم النشر العلمي باللغة الفرنسية بالإسكندرية    فيلم سيكو سيكو يواصل تصدر الإيرادات    أنغام تحيي حفلاً غنائيًا فى عمان وسط حضور جمهور كثيف وتقدم أكثر من 25 أغنية    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    «لوفتهانزا» الألمانية تمدد تعليق رحلاتها من وإلى تل أبيب    صحة غزة: أكثر من 10 آلاف شهيد وجريح منذ استئناف حرب الإبادة    جيروساليم بوست: ترامب قد يعترف بدولة فلسطين خلال قمة السعودية المقبلة    أبرز ما تناولته الصحف العالمية عن التصعيد الإسرائيلي في غزة    تنظيم ندوة «صورة الطفل في الدراما المصرية» بالمجلس الأعلى للثقافة    الدستورية تلزم الشركات السياحية بزيادة رؤوس أموالها خلال مدة محددة    جنايات المنصورة...تأجيل قضية مذبحة المعصرة لجلسة 14 مايو    هيئة التأمين الصحي الشامل توقع اتفاقًا مع جامعة قناة السويس    أنشأ محطة بث تليفزيوني.. سقوط عصابة القنوات المشفرة في المنوفية    تعرف على مواعيد مباريات الزمالك المقبلة في الدوري المصري.. البداية أمام بيراميدز    المتحف المصري الكبير يستقبل فخامة رئيس جمهورية جزر القمر ووزيرة التعليم والثقافة اليابانية    تحرير 16 محضرا لمخالفات تموينية في كفرالشيخ    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الكلام وحده لايكفي !?    حريق هائل في 5 منازل ببني سويف    استثمارات 159 مليون دولار.. رئيس الوزراء يتفقد محطة دحرجة السيارات RORO    مصر تستضيف الجمعية العمومية للاتحاد العربي للمحاربين القدماء وضحايا الحرب    اليوم.. انطلاق الجولة 35 ببطولة دوري المحترفين    «الصحة»: تدريب 5 آلاف ممرض.. وتنفيذ زيارات ميدانية ب7 محافظات لتطوير خدمات التمريض    خبر في الجول - زيزو يحضر جلسة التحقيق في الزمالك    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع جارسيا بيمنتا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    حاجة الأمة إلى رجل الدولة    الرمادي يعقد جلسة مع لاعبي الزمالك قبل مواجهة بيراميدز    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية السبت 10 مايو 2025    موعد مباراة الاتحاد السكندري ضد غزل المحلة في دوري نايل والقنوات الناقلة    حبس لص المساكن بالخليفة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يتعرض النظام المصري لتهديد داخلي داهم؟ / بشير نافع
نشر في محيط يوم 19 - 04 - 2008


هل يتعرض النظام المصري لتهديد داخلي داهم؟
بشير نافع
شهدت مصر خلال الأسبوع الأول من أبريل/نيسان، في شكل فاجأ كثيرين من مراقبي الشأن المصري، حركة احتجاج مطلبية واسعة نسبيا، وسط مناخ يقترب من التأزم السياسي المتعلق بالكيفية التي أدارت بها مؤسسات الدولة والحكم انتخابات المجالس المحلية.
الدعوة التي وجهتها منظمات سياسية معارضة للإضراب العام، احتجاجا على ارتفاع الأسعار، استجيب لها على نطاق ملموس، لا سيما في الجامعات والقطاع الخاص، بالرغم من التهديدات المتلاحقة التي وجهتها المؤسسة الأمنية ووسائل الرقابة التي اعتمدتها.
في يوم الاضراب (6 أبريل/نيسان)، شهدت المحلة الكبرى، المدينة الصناعية التي تعتبر قلعة صناعة النسيج المصرية، اشتباكات بين عمال مضربين وقوات الأمن. وقد تكررت الاشتباكات في المدينة في اليوم التالي، حيث تصاعدت الهتافات ضد الرئيس والحزب الوطني الحاكم ومزق المتظاهرون لوحات حملت صور الرئيس وإعلانات التأييد الانتخابي للحزب الوطني. قتل في اشتباكات ذلك اليوم صبي من أهالي المحلة برصاص رجال الأمن، وتوفي آخر متأثرا بجروحه بعد يومين، كما اعتقل مئات من المتظاهرين.
كانت الهيئات المشرفة على الانتخابات المحلية، التي تخضع بصورة كلية للحكومة المصرية، قد رفضت قبول أوراق عشرات الآلاف من مرشحي جماعة الاخوان المسلمين (المحظورة منذ العام 1954) وكافة أحزاب المعارضة الشرعية الأخرى، لتترك ساحة الفوز مفتوحة لمرشحي الحزب الوطني، مع منافسة محدودة من مئات قليلة من مرشحي الأحزاب المعارضة.
أدت إجراءات منع المرشحين الى ان تدعو جماعة الاخوان المسلمين الى مقاطعة الانتخابات. ولكن حتى بدون الدعوة الاخوانية، لم يظهر الناخب المصري اكتراثا بالعملية الانتخابية، ولم تعرف مراكز الاقتراع بالتالي أي إقبال ملموس من المقترعين.
والواضح ان التعديلات الدستورية الأخيرة، التي أعطت لممثلي المجالس المحلية دورا هاما في إكمال شروط الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، حولت الانتخابات المحلية الى ملف بالغ الحساسية، سواء بالنسبة للحزب الحاكم او للأحزاب المعارضة.
جاءت هذه التطورات بعد أزمة نقص حاد في الخبز، استمرت عدة أسابيع، وسلسلة من الاضرابات المهنية والعمالية طوال الشهور الأولى من ,2008 بما في ذلك اضراب موظفي الضرائب العقارية، والأطباء وأساتذة الجامعات، مطالبة بزيادة الرواتب. وهي المرة الأولى منذ عقود الذي تقوم فيه فئات من الطبقة الوسطى بالاضراب.
كما جاءت بعد حملة اعتقالات واسعة النطاق، طالت المئات من عناصر الاخوان المسلمين في كافة أنحاء البلاد، سواء كجزء من النشاط الأمني الدوري التقليدي ضد الجماعة أو بهدف إرباك التحضيرات الاخوانية للانتخابات المحلية.
وقد خلقت هذه التطورات الانطباع بأن النظام المصري يقترب من لحظة الأزمة المستحكمة، وربما حتى من السقوط. فإلى أي حد تشكل هذه التطورات خطرا داهما على النظام المصري؟
تشهد مصر ارتفاعا مطردا في أسعار المواد الغذائية الأساسية منذ عام على الأقل، وصلت مستويات حادة بالفعل خلال الشهور القليلة الماضية. أحد أسباب هذا التضخم يتعلق بتضخم عالمي في أسعار المواد الغذائية وليس بظاهرة مصرية خاصة.
فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية عالميا خلال العام الماضي بنسب تتراوح بين 40 و50 في المئة، نظرا لتوجه عالمي متزايد لاستخدام الذرة وفول الصويا كمصدر للطاقة الحيوية، ما شكل ضغطا هائلا على المواد الغذائية الأخرى، وارتفاع مستويات الاستهلاك في الصين والهند، والاضطرابات المناخية المتكررة، والاهمال العالمي نسبيا للزراعة خلال العقد الأخير الذي أولت فهي أغلب الدول اهتماما غير متوازن بتطوير التقنيات الحديثة في مجالي الاتصال والكومبيوتر.
أما السبب الثاني فيتعلق بسياسات مصرية خاصة. فقد أدت سياسة الخصخصة، التي بدأت منذ السبعينيات وتسارعت بمعدلات كبيرة منذ منتصف التسعينيات، الى خلل هائل في معدلات الدخول وفي مستويات المعيشة بين من لا يملكون، او من لا يملكون إلا القليل، ومن يملكون كثيرا جدا.
فاقم من هذا الخلل تجاهل الدولة البالغ لاتساع نطاق الفوارق الاجتماعية، النابع من اجتماع مقاليد الثروة والسلطة للمرة الأولى في تاريخ مصر بيد طبقة واحدة، الى الحد الذي وصل الى احتلال رجال الأعمال زهاء نصف مقاعد مجلس الوزراء.
فقد قامت الحكومة المصرية، على سبيل المثال، في العام الماضي بخفض الدعم الحكومي لأسعار المحروقات، ما أدى الى زيادة كبيرة في أسعارها، أثرت بالتالي على أسعار الخدمات وإعداد السلع الغذائية الأساسية والمصنوعات والنقل... الخ.
هذا، بالرغم من ان مصر دولة منتجة ومصدرة للنفط والغاز، وقد أفادت فائدة معتبرة من ارتفاع أسعار النفط خلال العامين الماضيين. بل ان تقارير أشارت الى ان أزمة المعروض من الخبز المدعوم من ميزانية الدولة نجمت عن سياسة استهدفت توجيه المستهلكين للخبز غير المدعوم، تمهيدا لخفض جديد في الدعم الحكومي لأسعار الخبز.
خفض الدعم الحكومي للمواد الاستهلاكية هو جزء لا يتجزأ من سياسة الخصخصة وتحرير قوى السوق، وقد نجم عن سياسات الخصخصة اضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة في دول مثل بريطانيا والأرجنتين.
بهدف تجنب مثل هذه الاضطرابات، اتبعت الدولة المصرية سياسة خصخصة تدريجية. لكن ما غاب عن النظام ان قدرة المجتمع المصري على امتصاص صدمات الخصخصة هي أقل بكثير من دول مثل بريطانيا والأرجنتين، وأنه حتى التدرج في سياسة الخصخصة ما كان له ان يوفر مناعة ضد الاضطرابات وردود الفعل، لا سيما عندما تواجه الدولة أزمة أسعار ذات طابع عالمي، خارجة عن أدوات التحكم للدولة المصرية.
وربما تبدو تجربة مصر في الخصخصة أقرب الى التجربة الاندونيسية منها الى الدول الغربية. ما يساعد مصر على تجنب الانحدار الى المصير الذي واجهته اندونيسيا هو عوائد النفط وقناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، وإلى حد ما الدخل السياحي.
من ناحية أخرى، يعود التوتر السياسي الداخلي الى أسباب مصرية بحتة. فمنذ الانتخابات البرلمانية المصرية قبل ثلاثة أعوام، مرورا بالانتخابات الرئاسية والتعديلين الدستوريين، وصولا الى انتخابات المجالس المحلية، أظهر النظام المصري عزما لا يلين على الاستمرار في نهج التعددية السياسية المحدودة والمتحكم فيها مركزيا، في احتكار الحزب الوطني للسلطة، وفي إقصاء القوى السياسية المعارضة، الكبيرة منها والصغيرة.
ساعد على المضي في هذه السياسة اختفاء الضغوط الخارجية كلية تقريبا، وضعف بنية المعارضة الداخلية.
وإن كانت سياسة التحكم والإقصاء أمنت حتى الآن سيطرة النظام والطبقة الحاكمة على مؤسسة الدولة، فليس من الصعب رؤية تحولها التدريجي الى عامل انفجار داخلي، في ظل يأس قطاعات متزايدة من المصريين من احتمالات التغيير السياسي، وشكها المتصاعد في جدية خطاب الاصلاح الذي تبناه الرئيس مبارك مؤخرا.
وتأتي الأزمة الاقتصادية وانغلاق الأفق السياسي بموازاة تراجع ملحوظ في دور مصر العربي ووزنها الاقليمي، وتورطها من جديد في سياسة المحاور العربية. فمن ضعف الدور المصري في العراق، الى عجز مصر عن حماية مصالحها والمصالح العربية في فلسطين، الى الخطر الذي يتهدد بوابة مصر الاستراتيجية في السودان، وصولا الى الموقف من الأزمة اللبنانية، يبدو النظام المصري أقل قدرة على المبادرة واتخاذ مواقف صلبة في حقل السياسة الخارجية عما كان في التسعينيات، مثلا، عندما كان الوضع الاقتصادي المصري أسوأ مما هو عليه الآن بكثير.
هذا لا يعني بالضرورة ان النظام المصري يواجه خطرا داهما، وذلك للأسباب التالية:
1 تفتقد الأحزاب السياسية المصرية المعارضة في أغلبها الثقل الشعبي، ويحتفظ النظام بكتلة خاصة به في كل واحد منها تقريبا، وهي بالتالي أعجز عن اتباع سياسة معارضة راديكالية للنظام. القوة المعارضة ذات الوزن الشعبي الكبير هي جماعة الإخوان المسلمين.
ولكن ظروف الحظر السياسي، من ناحية، وتاريخ الاضطهاد الطويل، من ناحية أخرى، إضافة الى تقدير الإخوان بأن الوضع المصري الداخلي غير ناضج لإطلاق حركة إصلاح سياسي شعبية شاملة، تجعل الإخوان أكثر ترددا في المبادرة بتحركات معارضة سياسية واسعة، او حتى الالتحاق بتحركات تبادر بها قوى سياسية أخرى، تؤدي الى صدام مباشر مع النظام. وكان من الملاحظ، مثلا، رفض الإخوان مساندة إضراب أساتذة الجامعات، وإحجامهم عن تأييد الدعوة للإضراب العام.
2 تعاني المعارضة المصرية من فقدان ثقة مستديم بين أجنحتها المختلفة. الأحزاب والشخصيات الليبرالية والناصرية القومية وما تبقى من اليسار تريد توظيف الثقل الإخواني من أجل إجبار النظام على تقديم تنازلات سياسية ملموسة، لكنها لا تقبل بقيادة الإخوان للحركة السياسية، ولا ترغب في أن تؤدي حركة المعارضة للنظام الى إسباغ الشرعية على الإخوان او الى أن يحل الإخوان محل الطبقة الحاكمة الحالية.
الإخوان المسلمون، من جهتهم، يجدون من الصعوبة القبول بقيادة قوى وشخصيات لا تتمتع بأي قاعدة شعبية، ولا تريد الاعتراف بالوزن الاخواني الجماهيري، ويرون في بعض من هذه القوى والشخصيات وجها آخر للطبقة الحاكمة.
3 تفتقد مصر السياسية برنامجا إجماعيا تلتقي عليه أغلبية القوى والفعاليات السياسية في البلاد، ويلتف حوله التيار الغالب بين المصريين. بالرغم من كل الحراك الذي تعيشه البلاد ومن ميراثها السياسي الكبير، فليس ثمة اتفاق حول أسس الدولة المنشودة، حول الأولويات الاستراتيجية للبلاد، حول النهج العام للاقتصاد والتنمية، حول التحالفات الخارجية الرئيسية، وحول المرجعية الثقافية للحكم والمجتمع. وفي ظل غياب مثل هذا الاطار الاجماعي فمن الصعب تصور انضواء قطاعات شعبية واسعة في حركة المعارضة، على المستوى المنظور على الأقل.
4 يستند النظام الى واحدة من أثقل مؤسسات الدولة وزنا وأعمقها جذورا. يعود تاريخ الدولة المصرية الى مطلع القرن التاسع عشر، وتتمتع بولاء مهني تقليدي من قطاع واسع من العاملين فيها، وقد أثبتت على مر تاريخها الطويل قدرتها العالية على التوالد وإعادة إنتاج نفسها.
كما تحتفظ الدولة المصرية بجهاز أمني ذي ذراع طويلة، توفر له امكانات غير محدودة. ويعتبر التماهي شبه الكامل بين نظام الحكم ومؤسسة الدولة، بحيث أصبحت معارضة النظام معارضة للدولة في الوقت نفسه، واحدة من أبرز وأعقد العقبات التي تواجهها قوى المعارضة المصرية.
5 بفعل الانتعاش الاقتصادي النسبي في السنوات القليلة الماضية، استطاع النظام إشراك اعداد متزايدة من القيادات العسكرية وقيادات الأجهزة الأمنية وكبار موظفي الدولة في فائض الثروة المحدود، بطرق مباشرة وغير مباشرة (المنح، الامتيازات، العمولات، توزيع الأراضي والوحدات السكنية... الخ).
6 يعج الحزب الوطني الحاكم بأصحاب المصالح ومحترفي البحث عن دور، وهو في الحقيقة حزب ولد في حضن الدولة ولا يحتفظ بميراث نضالي يستند إليه ولا برنامج صلب يدافع عنه ويولد لدى أنصاره الحماسة والاعتزاز بالولاء. لكنه ليس حزبا وهميا كما هي الصورة السائدة له. ففي خارج القاهرة، على الأقل، يستند الحزب الى شبكة واسعة من العلاقات التقليدية والأسر النافذة والوجهاء وأصحاب النفوذ المحلي، الذين طالما مثلوا قاعدة العمل السياسي الحزبي في مصر منذ مطلع القرن العشرين.
7 ثمة قلق مستبطن في الضمير الجمعي المصري من عواقب فقدان الاستقرار، قلق لا يتغذى من التقاليد الاسلامية التي تحض على تجنب الفتنة والصراع الداخلي وحسب، بل ومن مشاهد الاضطراب السياسي الذي يحيط بمصر أيضا. لا أحد في مصر يرغب في العودة الى وضع شبيه بالتسعينيات، او ان يتكرر في مصر ما عاشته الجزائر ويعيشه العراق.
بيد أن القول بعدم وجود أي خطر داهم يهدد النظام لا يجب ان يستدل منه ان النظام آمن تماما.
بعد زهاء عقد من الانفراج الاقتصادي، الذي تحقق بفضل عوائد بيع مؤسسات القطاع العام وتحويلات العاملين في الخارج وارتفاع عائدات السياحة ورسوم المرور في قناة السويس وصادرات النفط والاستثمارات الخارجية، تبدو مصر مقبلة على فترة من التأزم الاقتصادي.
هناك، من ناحية، مرحلة عدم اليقين التي يمر بها الاقتصاد العالمي، ومن ناحية أخرى، عودة قوى التضخم لتعصف بأسعار السلع الأساسية ومنتجات النفط على مستوى العالم ككل. وإن كان ارتفاع الأسعار عاملا بارزا في اضطرابات إبريل/نيسان، فإن هذه الأسعار مرشحة لمزيد من الارتفاع خلال السنوات القليلة القادمة، او للبقاء على ما هي عليه الآن في أفضل الأحوال. وتبدو مصر غير مستعدة للتعامل مع هذا الوضع، بعد ان أهملت لفترة طويلة وضع تصور استراتيجي للتنمية الزراعية، وقبلت بالخضوع لقوى السوق العالمية في ما يتعلق بأولويات أمنها الغذائي.
وعلى الصعيد الاجتماعي الاقتصادي أيضا، لم تنجح مصر سوى في العامين الأخيرين في الوصول الى معدل نمو سنوي يتجاوز الستة بالمئة بقليل. ولكن هذا المعدل للنمو، ان استطاعت الحفاظ عليه في ظل الظروف الاقتصادية العالمية الحالية المثيرة للقلق، غير كاف لتوفير وظائف لأعداد الشبان المتدفقين الى سوق العمل سنويا، ناهيك بصناعة الازدهار.
ويواجه النظام استحقاقا كبيرا، ومتأخرا، على صعيد منصب رئاسة الجمهورية. فعلى نحو ما، لقد انتقلت السلطة من الرئيس عبد الناصر الى السادات ومن السادات الى مبارك بطريقة سلسلة نسبيا. وبالرغم من تصريحات متباعدة للرئيس مبارك، الذي تولى منصبه منذ ,1981 تنفي وجود مخطط لتوريث المنصب لابنه جمال، فإن مؤشرات عديدة تدل على ان مشروع التوريث ماض في طريقه.
المشكلة، انه بالرغم من مرور زهاء العقد على دخوله غمار الحياة السياسية، لم ينجح جمال مبارك في تشكيل قاعدة شعبية او دائرة ولاء ونفوذ واسعة خارج نطاق مجموعة رجال الأعمال الملتفة حوله. النجاح الوحيد الذي حققه جمال مبارك كان في إحكام سيطرته على مقاليد الآلة التنظيمية للحزب الوطني، وهو نجاح لم يكن يتطلب جهدا كبيرا على أية حال.
ان واحدة من أبرز أدوات النظام في الحفاظ على الوضع الراهن هي الاستمرار في حجب الشرعية القانونية عن الإخوان المسلمين، كبرى القوى السياسية في البلاد، وشن حملات قمع متواصلة لكوادر الجماعة وقياداتها. لكن هذه السياسة قد تنقلب في النهاية على نفسها.
الشرعية السياسية والعمل العلني والمحاسبة الجماهيرية للبرامج هي شروط ضرورية لتطور نهج معتدل وتأسيس تقاليد التفاوض السياسي وارتفاع مستوى الحساسية والاستعداد للاستجابة لضغوط الدولة والرأي العام لدى التنظيمات السياسية. لكن الحظر السياسي والدفع الى العمل السري او شبه السري يولدان نزعات راديكالية، تنبع من الحاجة الى الحفاظ على الذات والشعور بالظلم.
وليس ثمة شك في ان النظام المصري قد اخفق في مساعيه لايقاف توسع القاعدة التنظيمية والجماهيرية للاخوان المسلمين، باعتبارهم التيار الرئيسي للاسلام السياسي في البلاد، وسيكون من الخطر ان تصل هذه القاعدة المتسعة الى حالة من اليأس وفقدان الأمل.
وفوق ذلك كله تدفع سياسة الاقصاء واحتكار السلطة الى توليد مناخ ثقيل من التوتر الدائم وصراع الدولة ضد قوى شعبها السياسية. الشبان الذين نشأوا في غمار الحركة الطلابية في السبعينيات والثمانينيات، ناصريين كانوا او اسلاميين، هم الآن في الخمسينيات او الاربعينيات من اعمارهم، وليس ثمة من منفذ امامهم لخدمة وطنهم او المشاركة في صناعة مستقبله.
وفي الوقت نفسه، يكاد جيل السياسيين المخضرمين الحذرين مغادرة الساحة السياسية. الاستمرار في نهج الاقصاء واحتكار السلطة يفقد البلاد طاقات هائلة من كافة التخصصات، ويعزز توجهات الصدام بين النظام القوى المعارضة. وكلما تصاعدت حدة الاستقطاب، كلما انكفأت الطبقة الحاكمة على نفسها واتسع نطاق الفساد والخراب في مؤسسات الدولة والحكم.
من وجهة نظر الدولة، فإن مصر تتجه نحو احد اتجاهين:
الاول: ان ينجح النظام في المحافظة على الوضع الراهن، متبعا نهجا تداوليا من القمع والاقصاء، من الاسترضاء والتراضي، ومن الاصلاحات السياسية الشكلية او المحدودة التي لا تؤثر على استمرار الطبقة الحاكمة في احتكار القوة والثروة.
ما قد يساعد النظام على النجاح في اتباع هذا النهج هو ولاء كوادر الدولة العسكرية والمدنية، وضعف وارتباك القوى السياسية المعارضة، وغياب الضغوط الخارجية. مثل هذا السيناريو لمستقبل مصر هو وصفة متكاملة للكارثة على كافة المستويات، على المديين القريب والمتوسط.
باطمئنان الطبقة الحاكمة الى قدرتها على مواجهة التحديات واستيعاب الانفجارات المعارضة المتقطعة، ستزداد انغلاقا على نفسها وتتسع الهوة التي تفصلها عن عموم الناس، وتتراجع شفافية الحكم بأكثر مما هي عليه الآن.
وسينجم عن هذا الوضع انتشار اوسع للفساد، ومزيد من العقبات امام الطبقة الوسطى الآخذة في النمو بصعوبة وامام طموحها في النهوض باوضاع البلاد. ستظل مصر اعجز عن احتلال الموقع واستلام الدور اللذين يليقان بها عربيا واقليميا، وسيصعب عليها، بالرغم من امكاناتها الهائلة، اللحاق بدول الكتلة الثانية في العالم، مثل تركيا واسبانيا.
الثاني: ان تتصاعد المعارضة والمطالبة باصلاح حقيقي للاقتصاد والسياسة، وان يؤدي تراكم الاحتجاجات الى بروز تيار معارض ذي دائرة عريضة من الفئات الاجتماعية والقوى السياسية المختلفة، قادر على الصمود وعلى فرض رؤيته للتغيير والاصلاح.
كل تغيير سياسي جوهري في تاريخ مصر الحديث ولد من رحم الدولة نفسها، بمعنى انه ما ان يصبح واضحا ان القطاع الشعبي الاوسع لم يعد قابلا باستمرار الوضع الراهن، وان النظام لم يعد قادرا على القيام بعملية ترميم واصلاح جادة ومقنعة، وان البلاد تتجه نحو انفجار يهدد بقاء الحكم والتماسك الوطني، حتى تتحرك دوائر ما من داخل جسم الدولة وتحمل على كاهلها اعباء التغيير والاصلاح.
وقد تجلت هذه العملية في العديد من المنعطفات الهامة خلال القرنين الماضيين، من سياسات الحفاظ على الذات التي اتبعها عباس الاول بعد هزيمة مشروع محمد علي الى النهضة الثاني في عهد اسماعيل، ومن ثورة 1919 الى انقلاب .1952
لدى الدولة المصرية حس عال للحفاظ على الذات وحماية الكيان الوطني، وفي حال تصاعدت حركة المعارضة، فسيعمل هذا الحس على مقابلة مطالب التيار المعارض وتعهد مشروع تجديدي.
عن صحيفة السفير اللبنانية
19/4/2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.