لماذا فقد الشارع العربي اهتمامه بالقمة العربية ولم يعد ينتظر منها الكثير؟!, ولماذا كان حصاد القمم العشرين التي تم عقدها حتي الآن متواضعا محدودا لا يكاد يحس به المواطن العربي, برغم مئات القرارات التي صدرت علي أعلي المستويات تتعلق بقضايا العرب ومشكلاتهم السياسية والاقتصادية وخلافاتهم الإقليمية والدولية, ومكانتهم التي تزداد ضعفا علي مستوي العالم برغم امكاناتهم الضخمة والمؤثرة؟!
ولماذا تنفجر القمم العربية الآن عن مشاهد درامية في الجلسات العلنية والمغلقة تعكس خلافات الرؤي والمواقف, وتزيد من أزمة الثقة في إمكان وجود تضامن عربي فاعل ومؤثر, وتحول المشهد العربي الي لوحة كاريكاتورية عامرة بعوامل السخرية المرة, كان آخرها مشهد العقيد القذافي الذي سئل عن نتائج قمة دمشق فجاءت إجابته العدمية بأنها شأن القمم العربية الأخري, لم تثمر شيئا!, لتؤكد للشارع العربي صدق اعتقاده بأن القمة العربية لم يعد في وسعها أن تنجز الكثير في ظل الخلافات العربية المتزايدة, وأن أفضل آثارها, أنها تشكل مناسبة احتفالية للبلد المضيف, تضفي بعض المظاهر الدعائية علي دورها بهدف تعزيز صورة الحكم, وربما تعطي لأهل البلد المضيف أياما مغايرة أقل رتابة قبل أن ينتهي الحدث, وينتهي معه طوفان الأناشيد والأغنيات الوطنية التي تستولي علي آذان الناس خلال أيام القمة؟!
وهل يعود السبب بالفعل.. كما اعتدنا القول, الي غياب الإرادة السياسية الفاعلة, أم أن العمل العربي المشترك يفتقد أهدافه الواضحة والمحددة التي تشكل الحد الأدني للمصالح العربية المشتركة التي ينبغي أن يتفق عليها الجميع, ولم تعد وحدة اللغة والمصير والتاريخ تكفي حافزا علي التجمع العربي بعد أن مضي عصر القوميات وتحول العالم الي عصر التكتلات الاقتصادية الضخمة, ولهذا فإن معظم قرارات القمم العربية تظل حبرا علي ورق تفتقد إرادة التنفيذ, لأن ما يجمع العرب الآن هو مجرد بقايا من التزام عربي قديم بقضية فلسطينة, قضية العرب المركزية الأولي!, بعد أن نجح العرب في تحميل الفلسطينيين الجزء الأكبر من أعباء قضيتهم, وقدم الفلسطينيون بسوء تعاملهم مع قضيتهم الأعذار التي تبرر الضعف المتزايد للدور العربي نتيجة الانقسام الفلسطيني الذي استحال الي حرب مستعرة بين فتح وحماس, لم تنجح وساطات القاهرةوالرياض وصنعاء مع الفرقاء المختلفين في إطفائها, لأن الفريقين يختلفان, صراعا علي السلطة, في العقيدة والفكر والرؤية والنهج العملي, ويختلفان في تحالفاتهما الإقليمية والدولية المتضادة, ولأنهما يسيران كما قال القذافي في خطين
متوازيين يستحيل لقاؤهما عند نقطة اتفاق مشترك؟! لكن الواضح مما جري علي الساحتين الإقليمية والدولية, أن ثمة أخطارا جادة وجديدة غير المشكلة الفلسطينية, إقليمية وعالمية, تتحدي العرب جميعا, وتهدد أمنهم القومي, وتزيد بسببها انقساماتهم الداخلية, وتشعل حرائق الفتن الطائفية والدينية والعرقية في ديارهم التي يمكن أن ينتقل أوارها الي كل بلد عربي, تذكرهم من جديد بوحدة التاريخ واللغة والمصير المشترك مهما حاولوا النسيان, وتفرض عليهم قدرا متزايدا من التضامن والعمل العربي المشترك بدونهما يمكن أن يتم تهميش مصالحهم في عالم التكتلات الاقتصادية الضخمة والاحتكارات الدولية العابرة للقارات, والاستحواذ المنفرد علي انجازات العلوم والتكنولوجيا, كما تذكرهم بأن الاعتماد علي الآخر لتحقيق أمن العرب الوطني والقومي أو استعادة حقوقهم السليبة, أو منع الأخطار المحدقة, أو محاولة سد فجوة التقدم التي تزداد اتساعا بين العالم المتقدم وعالمنا العربي, لا يفيد كثيرا في غيبة استثمار عوامل القوة الذاتية العربية وحشد امكاناتها تجاه أهداف صحية, وفي غيبة وجود أجندة عربية ذات أهداف محددة واضحة تضمن احترام مصالحهم.
وليس صدفة بالمرة أن نري الاستراتيجية العربية حفاظا علي الأمن العربي القومي تتراجع في الشرق الأوسط والخليج تحت ضغوط الزحف المتواصل لاستراتيجية طهران في صراعها مع الغرب علي حساب مصالح العرب وأمنهم القومي, وتكاد تستحوذ استراتيجية طهران الزاحفة والنشيطة علي مفاتيح القوة في العراق لتغير هويته العربية, وتسعي الي اختراق دمشق قلب العروبة النابض لتصبح واحدا من عناصر القوة في استراتيجياتها بعد أن كانت دمشق جزءا أصيلا من نواة التضامن العربي التي تضم القاهرةوالرياض, تضبط إيقاع العمل العربي المشترك لصالح مصالح العرب وأمنهم القومي, كما تسعي الي توطين نفوذها في لبنان وفلسطين, بينما العرب منقسمون علي أنفسهم, لم يحسموا رأيهم بعد في ضرورة إدارة الحوار مع طهران, بما يضمن توافق المصالح العربية والإيرانية بدلا من البقاء في موقف المتفرج انتظارا لما يسفر عنه صراع الغرب مع إيران,
أو أن يكونوا جزءا من استراتيجية هذه المواجهة التي يكاد يكون العرب هم أكبر أطرافها الخاسرة اذا خرج الصراع من دائرة التجاذب السياسي والعقوبات الاقتصادية وحملات الدعاية المتبادلة الي نطاق الحرب والمواجهة العسكرية بين الغرب وإيران, لأن الحرب سوف تجري علي أرض العرب وفوق ساحاتهم الداخلية, وربما يمتد حريقها من إيران الي سوريا ولبنان وغزة وفلسطين بعد أن بلغ الاستقطاب الإيراني في المنطقة العربية حدا بالغا ومؤثرا زاد من تعقيد الأزمة اللبنانية بين المعارضة والموالاة, وأغلق كل فرص حل الأزمة أو حلحلتها قبل اجتماع قمة دمشق, وترك الاستحقاق الرئاسي في لبنان شاغرا برغم رحيل الرئيس اللبناني اميل لحود قبل أكثر من ثلاثة أشهر, وأدي الي شرخ في العلاقات العربية العربية لايزال غائرا, ترتب عليه اندثار نواة التضامن العربي التي كانت تضم الرياضوالقاهرةودمشق.
وبرغم بعض التفسيرات المبتسرة التي كانت تدور في أروقة كواليس قمة دمشق, حول مدي تأثير النفوذ الإيراني علي استقلال قرار دمشق في ظل قيادة الرئيس بشار الأسد, الذي تحمل المسئولية خلفا للاعب بارع هو الرئيس حافظ الأسد, رحمه الله الذي كان يحسن استخدام الأوراق التي في يده مهما تكن محدودة الأثر والعدد بسبب زيادة حجم الاستثمارات الإيرانية في سوريا الآن, ودخولها مجالات عديدة مهمة تتعلق بالتصنيع وتوليد الطاقة, وزيادة العون العسكري للقوات المسلحة السورية التي تقادمت معداتها, والذي تمثل في تمويل صفقة الطائرات الروسية الأخيرة وزيادة القدرة الصاروخية للجيش السوري, ووجود مراكز تأثير لصالح إيران قريبة من دوائر صنع القرار السوري, إلا أن الشواهد لاتزال تؤكد أن دمشق لم تفقد بعد استقلال قرارها, وما يؤكد ذلك, ذهاب سوريا الي مؤتمر أنابوليس برغم امتعاض طهران,
لكن الأمريكيين أخفقوا في التعامل مع الموقف السوري, كما أخفقوا في وضع سوريا في خانة التطرف برغم دورها المتزايد في ضبط حدودها مع لبنان وبرغم نداءاتها المتكررة علي امتداد العام الماضي تأكيدا لاستعدادها لاستئناف التفاوض مع الإسرائيليين حول الجولان, فضلا عن خطاب الرئيس بشار الافتتاحي الي القمة, الذي حرص علي عدم توسيع الشرخ العربي القائم, وأكد تمسكه بمبادرة السلام العربية, وتعهد بأن تظل دمشق كما كانت قلب العروبة النابض, ومد خيوط الحوار الي القاهرةوالرياض حول القضايا المختلف عليها انطلاقا من أن الحوار هو السبيل الصحيح لتحقيق تفاهم متبادل ومشترك, ولا يختلف أحد علي أن استعادة دمشق الي قلب التضامن العربي تتطلب جهدا صبورا يتفهم خطورة عزل سوريا عن محيطها العربي, وتأثير ذلك علي فرص العمل العربي المشترك, كما يتطلب قدرا من روح التسامح بين جيل الآباء وجيل الأبناء, إضافة الي الفهم العادل لمصالح سوريا الاستراتيجية في لبنان برغم أن السوريين ارتكبوا أخطاء جسيمة هناك تستحق التصحيح ليس من المقبول تجاهلها أو تكرارها.
واذا كان صحيحا أن الخلاف بين القاهرةودمشقوالرياض قد زاد من قلق الشارع العربي علي مصير القمة العربية, والعمل المشترك, إلا أن ما يزيد من بلبلة الشارع العربي وشكوكه حول جدوي القمم العربية, أن المواطن العربي يكاد يصيبه الملل من جدول أعمال متكرر وصياغة قرارات معادة يكاد يتماثل منطوقها كل عام في جدول أعمال يزدحم بما يقرب من20 بندا تتكرر كل عام, والأهم من ذلك غياب بديل عربي واضح يجمع الفرقاء المختلفين علي استراتيجية واضحة للعمل العربي المشترك, لا يتشكل جوهرها اعتمادا علي استراتيجيات الآخرين, الذين يضمرون أهدافا مغايرة معلنة وغير معلنة لا تخلو من خداع وخديعة, خصوصا في قضايا الأمن والحرب والسلام والعلاقات مع إسرائيل, لأنه مهما تكن أوراق اللعبة في أيدي الأمريكيين فإن أيدي العرب ينبغي ألا تبقي فارغة من أوراق مقابلة, تصلح للضغط علي الموقفين الأمريكي والإسرائيلي, خصوصا أن العرب يملكون من أسباب القوة التي يمكن أن تدعم قوتهم التفاوضية وتلزم الآخرين أن يأخذوهم مأخذ الجد.
واذا كانت قمة دمشق قد أقرت مطلب الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي, بضرورة إجراء عملية تقويم للموقف العربي من عملية السلام في ضوء فشل كل الجهود الراهنة وعدم الوفاء بالوعود والالتزامات والتفاهمات, والإمعان الإسرائيلي في تغيير التركيبة السكانية والتشكيل الجغرافي للأراضي المحتلة, بما في ذلك القدس, فإن إجراء هذا التقويم للموقف العربي الذي عهد به الي اجتماع خاص يعقده وزراء الخارجية العرب قريبا, ينبغي أن تصحبه عملية تقويم لمسار الخط الاستراتيجي العربي, لا يتراجع عن السلام كخيار استراتيجي عربي, لكنه لا يستبعد أيضا صور المقاومة العديدة, التي تضع فروقا واضحة بينها وبين الإرهاب, والتي يمكن أن تشمل المقاطعة وتجميد العلاقات والملاحقة القضائية لجرائم الحرب التي يرتكبها الإسرائيليون علي الأرض الفلسطينية كبدائل متاحة يمكن أن يتوحد بشأنها العرب جميعا, وتضع نهاية لهذه الفرقة المصطنعة التي قسمت العرب الي معتدلين ومتطرفين ولن يأتي من ورائها سوي الفتن والخراب والدمار,
كما ينبغي أن تصحب عملية التقويم دعوة منظمات العمل الأهلي العربي الي الاشتراك في اقتراح بدائل أخري كي يستند الموقف الرسمي العربي الي قوة ا لرأي العام العربي ومؤسساته الأهلية, غير أن وقف الجهد العربي المشترك علي جدول أعمال سياسي مهما تكن أهمية قضاياه, يغفل في الحقيقة مخاطبة عوامل أخري عديدة تشكل جزءا من القوة العربية تتعلق بالحفاظ علي الهوية العربية ومقاومة محاولات التغريب التي تكاد تطغي علي الهوية العربية ورد الاعتبار للغة والثقافة العربية كعامل مهم يساعد علي تعزيز الفهم المشترك.
وفوق جميع ذلك, ينبغي أن يستقر في الضمير العربي أن المصير العربي واحد في عصر التكتلات الاقتصادية الكبري, وأنه لا نجاة ولا فائدة كبيرة ترجي من وراء أي مشاريع قطرية مهما عظمت قيمة استثماراتها لضيق السوق المحلية وقدرتها المحدودة علي منافسة الخارج, وأنه لا بديل في النهاية عن تنمية مشتركة تقوم علي تكامل الجهد التنموي العربي, وتبادل المنافع علي أسس متكافئة, تنهض علي بنية أساسية مشتركة تربط أجزاء العالم العربي وأقاليمه, وتعطي فرصة لزيادة حجم التصنيع العربي المشترك وحجم التجارة البينية.., ولا أشك لحظة في أن القمة الاقتصادية الاجتماعية التي سوف تعقد في الكويت مع نهاية هذا العام, يمكن أن تحقق إنجازا ملموسا يشعر به المواطن العربي اذا تم الإعداد لها علي نحو جيد. ** عن صحيفة الاهرام المصرية 5 / 4 / 2008