المحرقة وغياب الوعي د.لطيفة النجار لقد هزت الوحشية النازية الضمير العالمي نتيجة اقترافها جرائم جماعية بحق البشرية ولاسيما بحق اليهود، وقد ظلت ألمانيا تشعر بالذنب تجاه ما اقترفه العهد النازي، وظل الشعب الألماني يكفر عن ذنبه حتى امتصت الصهيونية العالمية كل ما تستطيع من الخزينة الألمانية،.
ولم يعد هناك رقم معين للتعويض، فبات الابتزاز الدائم السمة الأساسية في العلاقة بين ألمانيا والصهيونية العالمية. وقد تمكنت الصهيونية العالمية من جعل حادثة المحرقة التي لا ننكر حدوثها من المقدسات التي لا يسمح لأحد بالتشكيك فيها أو حتى مناقشة حجمها وتفصيلاتها، وبات المشككون أو المناقشون عرضة للملاحقة والمحاكمات وتنفيذ أحكام السجن والاعتقال.
على أن الضمير العالمي الحي، والضمير الأوروبي على وجه الخصوص، لم يتنبه على جريمة أخطر، وربما لا تقل بشاعة عن جريمة الإبادة الجماعية ضد اليهود وغير اليهود نتيجة الفكر العنصري البشع وهي اغتصاب فلسطين لصالح المجني عليهم، وقد سهلت الدولة المنتدبة، بطريقة لا أبشع منها ولا أخبث، مهمة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، إذ أعطى، كما قيل بحق، من لا يملك وعداً لمن لا يستحق، وتعرض شعب أعزل تحت انتداب دولة كانت ضحية للنازية لمؤامرة العصر، باجتثاث شعب آمن من وطنه وأرضه، وتقتيله وتهجيره.
وإذا كانت المعاصرة حجاب، كما يقولون، فماذا سيقول التاريخ وهو ينظر إلى هذه الفترة المخزية من تاريخ البشرية حين ينتفض الضمير العالمي نتيجة ارتكاب المحرقة العنصرية ليكفر عنها بإزالة شعب من الوجود وطمس التاريخ والجغرافيا؟ وماذا سيقول الضمير الإنساني عن دور الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين وعلماء الأخلاق عن هذه الازدواجية التي تدل على فساد المنطق وغياب الضمير؟
لا أحد يتخيل كيف يستقيم المنطق الحضاري وهو يتأمل هذه المعادلة التي جرّت على الأبرياء الآمنين مأساة أشد وأنكى؛ فلم تكن ثمة مشكلة أمام اليهود في العالم بعد أن اندحرت النازية وفكرها العنصري، فقد كان اليهود في كل مكان في العالم في أوطانهم الأصلية يعيشون آمنين مطمئنين، وما كانوا بحاجة إلى عودة خرافية إلى أرض الميعاد من كل حدب وصوب يحققون خرافة العصر على أنقاض شعب يعيش في وطنه.
إن المتحضرين الجدد الذين رفعتهم الآلة المادية إلى سدة السيادة العالمية لم يسألوا أنفسهم يوماً عن هذه الجريمة التي ارتكبوها ولا تزال أصداؤها تتردد في الضمير الإنساني كل يوم، والأعجب والأغرب أنهم يحدثوننا كل يوم عن العالم المتحضر وقيمه وأساليب عيشه، يتحدثون -كأن ذاكرة التاريخ تعطلت- عن قيم العدل والمساواة والحق والخير، وكأن على العاقل أن يقصي عقله ويستسلم للعبثية التي تسود الكون وتغلف العالم.
إنه يحلو لكثير من الناس أن يتحدث عن الحق والعدالة والحرية والديمقراطية والعولمة والعالم الواحد، ويتصور أن الناس جميعاً سواسية وأن احترام حقوق الإنسان مطلب مقدس، ولكنهم سرعان ما يقفون أمام علامات استفهام واضحة: لماذا القياس بأكثر من معيار؟ لماذا تختلف حياة عن حياة ونفس بشرية عن نفس بشرية أخرى؟
ولماذا يحيا لون ويقتل لون آخر؟ لماذا ينتفض العالم انتفاضة الرجل الواحد لمقتل فلان من الناس ويصمت صمت المتجرد من أدنى صفة للإنسانية وهو يرى الرجال والنساء والأطفال يتساقطون بلا ذنب ولا خطيئة؟ ولماذا لا يغفو الضمير الإنساني إلا حين يكون القاتل صهيونيا والمقتول فلسطينيا؟ أو حين يكون المقتول مسلما في أي أرض وتحت أي سماء؟
إن هذه الأسئلة يجب أن تجد لها جواباً واحداً في ثنائية رهيبة هي ثنائية الضعف والقوة التي تحكم الكون منذ الأزل. إن ثنائية الضعف والقوة توجب علينا أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قرن لقمة العيش بالأمن حين قال (فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فلا طعام من دون أمن، ولا أمن من دون امتلاك القوة التي يدافع بها الإنسان عن النفس.
فكيف بهؤلاء الذين نكبوا في أرضهم وأنفسهم أن يجدوا مذاق الأمن والشبع في أفق لا يعرف رحمة ولا عدلا، ولا يتورع عن ارتكاب جرائمه على مرأى من العالم كله ومسمع. فليس هناك قوة تردعه، ولا صوت يعلو على طغيانه وظلمه. وكيف للضعيف المقهور المغلوب المنكوب الذي لم يذق من أهله إلا طعم الخذلان والصمت والتجاهل أنْ يأمن في أرضه وهي مشاع لغطرسة العتاة الظالمين؟
إنّ تشتت العرب وانكباب كل جماعة منهم على مصالحها الذاتية، وتجردهم من تحمل مسؤولية ما يحدث في فلسطين، والتمسك بمقولة إنها قضية الفلسطينيين وحدهم كان شرخا عظيما في تاريخ هذه الأمة المنكوبة، فكيف للتاريخ أن يمزق؟ وكيف لا يعي الناس أنّ سنة الله في أرضه لا تتغير ولا تتبدل؟
أقول هذا ونحن نتأمل أفعال الذين تعرضوا في الماضي القريب لحرب إبادة، ونسمع أقوالهم، فقد رأينا على شاشات الفضائيات ما تعرضت له غزة هاشم المنكوبة من مذابح تشيب لهولها الولدان، إذ قضى عدد كبير من الشبان والشيب والولدان والأطفال أشلاء بفعل الصواريخ والطائرات التي لم تهيأ إلا في معارك الجيوش الكبيرة في ميادين المعارك الطاحنة.
كان متوقعاً من العدو وهو يشاهد آثار القصف أن يشعر بالخزي والعار وأن يهتز ضميره لما يرى ويسمع، لا أن يخرج متبجحاً بأن سكان غزة سيتعرضون لمحرقة حقيقية إن هم استمروا في المقاومة.
ماذا جنى هؤلاء الذين هجّروا من ديارهم بالأمس القريب وما زالوا في حلم العودة حتى يلاحقوا بالقتل والذبح والترويع والتدمير سوى أنهم الشاهد على مأساة العصر؟ إن المحرقة تنتظرهم لأنهم يأملون ويحلمون ويرفضون أن يبيعوا الحلم بوعود السماسرة والدجالين والأفاقين الذين لا يعرفون إلا المضاربات بالأسهم والأخلاق. إنّ ما يجري في غزة هو جريمة العصر بامتياز وليعلم كل ساكت عن الحق أن دوره قريب قريب. عن صحيفة البيان الاماراتية 5/3/2008