استهدافات العدوان على غزة توفيق المديني غطى العدوان الصهيوني على غزة على ماعداه من الأحداث الكبيرة في العالم العربي، ونفذت “إسرائيل" تهديدها بارتكاب محرقة جديدة في غزة يوم السبت الماضي، وقتلت أكثر من خمسين فلسطينياً، غالبيتهم من الأطفال والنساء، في مجزرة نفذتها شمال القطاع قرب مخيم جباليا للاجئين، حيث توغلت قواتها البرية نحو ثلاثة كيلومترات في أكبر عملية منذ شهور. ولم يكن هذا العدوان مفاجئاً، إذ إن حكومة إيهود أولمرت أعلنت أكثر من مرة تصميمها على اتخاذ خطوات حازمة ضد ما تسميه إطلاق الأجنحة المسلحة التابعة لفصائل المقاومة الفلسطينية عشرات الصواريخ، على المستوطنات المحاذية للقطاع. ويعتبر هذا العدوان الجديد العملية العسكرية الأعنف التي تنفذها قوات الاحتلال في القطاع حالياً، اختباراً لقدرات فصائل المقاومة قبل الشروع في اجتياح واسع، علما أن نائب وزير الحرب “الإسرائيلي" ماتان فيلنائي قال إن العدوان على غزة “عملية واسعة"، لكنه ليس “عملية برية كبيرة"، مشيراً إلى أن الهجوم أساساً يعتمد على الطيران. ونفى أن يكون التوغل البري شرارة لعملية برية واسعة النطاق تقضي بإعادة احتلال جزئي لقطاع غزة، لكنه أشار إلى أنه “كلما ازداد التصعيد كانت هناك فرص للجوء إلى قوات أكبر". غير أن سقوط القتيلين من قوات الاحتلال الصهيوني ووصول الصواريخ محلية الصنع إلى مدى بعيد نسبياً يُنذران بمواجهة غير مسبوقة في حال اتخذ المجلس الوزاري الأمني “الإسرائيلي" المصغر في جلسة يعقدها الأربعاء المقبل قراراً في هذا الشأن. فالاحتلال الصهيوني يستغل قضية إطلاق الصواريخ كذريعة لاقترافه المجازر اليومية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، وهو يحدد مطالبته بوقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية من القطاع على مستوطناته المحاذية للقطاع في الجنوب الفلسطيني لقاء إيقاف أو تخفيف الحصار عن القطاع، وليس غريباً أن يكون هذا منطق المحتل. لقد أوردت منظمة (بتسليم) “الاسرائيلية" لحقوق الانسان، في تقرير لها لعامي 2006 و2007 أن القوات “الاسرائيلية" قتلت 816 فلسطينيا من بينهم 152 من القصر و48 طفلا دون سن الرابعة عشرة. كما نقل عن - يوفال ديسكن - رئيس وكالة الأمن “الاسرائيلية"، إبلاغه لمجلس الوزراء “الإسرائيلي" عن اغتيال “إسرائيل" لما وصفهم ب 1000 - إرهابي - في قطاع غزة خلال العامين الماضيين. من المنظور الصهيوني فإن العدوان على غزة يستهدف تصفية حركات المقاومة الفلسطينية باستهداف تصفية القيادات السياسية. وما تسعى إليه حكومة إيهود أولمرت في الوقت الحاضر، في القطاع، هو إحكام واستمرار الحصار المفروض على أكثر من مليون ونصف المليون إنسان فلسطيني، والذي لم يتوقف وإن ليوم واحد منذ أكثر من عامين وتحديدا بعد انسحاب قوات الاحتلال من القطاع وتفكيك المستوطنات هناك، حيث واصل العدو المحتل استهدافه القيادات الفلسطينية والنشطاء من رجال المقاومة الى جانب استمرار الاعتقالات في عموم الأرض المحتلة منذ عام 1967. العدوان الصهيوني، يستهدف أيضاً تأليب الشعب الفلسطيني ضد المقاومة المسلحة، التي يريد الاحتلال تصفيتها، وهو ما يطلق عليه بتعبيره “تفكيك المنظمات الإرهابية الفلسطينية وتدميرها" على أمل تحطيم الإرادة الفلسطينية وجعل الفلسطينيين أداة طيّعة في أيدي قوات الاحتلال الصهيوني. فما يريده أولمرت وباراك هو تصفية حماس، وحل التنظيمات العسكرية الفلسطينية وجمع الأسلحة باعتبارها الخطوة المطلوبة التي يجب على الرئيس محمود عباس تنفيذها أولاً. أي أن الصهاينة يريدون أن تكون اليد العليا أو الكلمة الأخيرة لهم وإلا تتم المساواة بينهم وبين الفلسطينيين بحيث يستطيعون أن يوقفوا التقدم في تطبيق خريطة الطريق وما تتطلبه من التزامات. فالقادة الصهاينة يرفضون مبدأ التقدم المتوازي في تنفيذ التزامات الطرفين الصهيوني والفلسطيني بخريطة الطريق، وهم مستمرون في بناء الجدار العنصري وبناء المستوطنات وتسمين القائم منها وبناء المزيد من الوحدات الاستيطانية في القدس، ومصادرة الأراضي وهدم المنازل والإسراع في خلق وقائع جديدة على الأرض في القدس ومحيطها، مع الاستمرار في تهديد أسس المسجد الأقصى. العدوان الصهيوني أسقط الخيار المطروح الذي انساقت فيه السلطة الفلسطينية عقب عقد اجتماع أنابولس، إذ تحوّل هذا الأخير منذ انعقاده ولغاية اليوم إلى مناسبة لتصعيد الضغط على الرئيس محمود عباس لإعادة الفلسطينيين إلى مربّع الانقسام،وتغييب الملفات التي أرادها الفلسطينيون من الاجتماع، في ظل عدم استعداد حكومة أولمرت التخلي عن القدس الموحدة عاصمة أبدية ل"إسرائيل" أو الانسحاب لحدود 1967 أو تنفيذ حق العودة. وبدلا من ذلك واصلت التأكيد على أن السلطة الفلسطينية يجب أن تلبي اشتراطات الرباعية لكي يصار البحث بإقامة دولتين متجاورتين، من دون أن تشير أدنى إشارة إلى حدود كل من الدولتين، أو تذكر موقع العاصمة الفلسطينية، ما دام أولمرت يؤكد إجماع الصهاينة على أن تبقى القدس موحدة وعاصمة ل"إسرائيل".. وهذا هو التحدي الذي يواجه صناع القرار الفلسطيني الخاص والعربي العام. فما يجري أمام أعيننا في غزة الآن لا يخرج عن كونه مشهدا في مسلسل محكم ومتصل الحلقات لإدارة الصراع العربي الصهيوني بالطريقة المعتادة، والمصممة لخدمة المصالح الصهيونية وحدها. فقد بات واضحا الآن، وبعد ثلث قرن من بداية “عملية التسوية"، أن الأطراف العربية التي أبرمت معاهدات “سلام" ودخلت في علاقات مؤسسية مع الكيان الصهيوني وقعت في خطأ استراتيجي قاتل لأنها بنت مواقفها التفاوضية حينئذ على فرضية مفادها أن الكيان الصهيوني أصبح جاهزا لتسوية نهائية ومقبولة من جميع الأطراف المنخرطة معها في الصراع. “إسرائيل" لا تريد السلام، لأن وجودها بالذات هو نقيض السلام، ولأن السلام يحرمها من دورها الوظيفي الذي قامت من أجله، ألا وهو خدمة المخططات الإمبريالية الغربية، ولا سيما الأمريكية منها من أجل إبقاء السيطرة الأمريكية على مقدرات الأمة العربية. فلا تزال “إسرائيل" اللاعب الوحيد المتحالف عضويا مع الولاياتالمتحدة، التي تتبنى استراتيجية خاصة لحل الصراع تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، ورفض أي تسوية شاملة من خلال مؤتمر دولي تشارك فيه كل الأطراف، متبنيا، بدلا من ذلك، سياسة “الخطوة خطوة" التي صكها هنري كيسنجر، وتصعيد حملات العدوان ضد الفلسطينيين. عن صحيفة الخليج الاماراتية 4/3/2008