هل تتحرر تركيا من عقدة الحجاب؟ بشير عبد الفتاح أما وقد أجاد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا توظيف هيمنته علي السلطتين التشريعية والتنفيذية بما يخوله حسم الجولات التمهيدية لمعركة الحجاب بعد إقرار البرلمان التركي لمشروع تعديل دستوري كان الحزب قد اقترحه وحزب الحركة القومية اليميني المعارض بغية إجازة ارتداء الحجاب في الجامعات التركية, فيما لم يعد تصديق رئيس الجمهورية عليه محل تشكيك تلوح في الأفق التركي بوادر أزمة سياسية جديدة مع إستنفار الجبهة المناهضة لهذه الخطوة أتباعها من العلمانيين والقوميين المتطرفين المدعومين من العسكر وإدارة الجامعات والمؤسسة القضائية وتمترسها خلف المحكمة الدستورية العليا توخيا لإجهاض المشروع في محطته الأخيرة والإستقواء بها في صراعها ضد حزب العدالة ذي الجذور الإسلاميةأملا في محاصرته وتطلعا لتقويض مسيرته الإصلاحية الطامحة إلي تحرير تجربة الحداثة التركية من أصوليتها العلمانية وشوفينيتها المفرطة. ولئن كان الجيش التركي الذي طالما نصب نفسه حاميا لحماية النظام العلماني قد آثر التزام الصمت حيال مبادرة حزب العدالة بشأن الحجاب وإن جنح ضمنا وعلي إستحياء للتذكير بموقفه الرافض لهذا المسعي فإن تداعيات الاختراق الذي حققته حكومة العدالة بتجاسرها علي تحدي' تابو' الحجاب تشي بأنها قد باتت في مواجهة علي أكثر من جبهة مع خصم عنيد لم تسفر نجاحاتها المتوالية علي مختلف الأصعدة عن كسر شوكته أو إسقاط أنيابه كلية مثلما هو الحال مع الجيش. فبالتزامن مع تظاهرات حاشدة لعشرات الآلاف من رافضي الحجاب كشرت إدارة الجامعات التركية عن أنيابها بإصدار إعلان يؤكد أن إقرار القانون الجديد بشأن الحجاب سيقضي علي التفكير العقلاني والعلمي في الجامعات ويحول تركيا إلي دولة دينية ثيوقراطية. وفي سياق مواز تداولت الصحف التركية قصة جماعة قومية متطرفة تعرف باسم' أرجينيكون'تيمنا بواد في أسطورة قومية تركية تضم ضباطا وساسة متقاعدين تحيطهم شبهات وإتهامات بالسعي لتجنيد مسئولين حكوميين والتخطيط لتنفيذ تفجيرات واغتيالات لشخصيات عامة من أجل ترويع الجماهير ونشر الفوضي توطئة لاستثارة الجيش وحثه علي الإطاحة بحكومة العدالة واستعادة زمام السلطة في البلاد. وفيما نفي الجيش التركي أي علاقة له بتلك الجماعة فقد سلطت فضيحة أرجينيكون الضوء علي ما يمكن أن يسمي بظاهرة' الدولة الخفية' في تركيا والتي يسعي من خلالها القوميون المتشددون المتغلغلون في قوات الأمن وأجهزة الدولة إلي استغلال نفوذهم وقدرتهم علي تجنيد المسئولين وتعبئة الجماهير بغرض مناهضة حكومة أردوغان وإجهاض مسيرتها الإصلاحية التي تتوخي من بين أهدافها تأهيل تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي. بيد أن أقوي جبهات المواجهة مع مناهضي حكومة العدالة والتنمية كانت تلك التي تصدرتها المؤسسة القضائية التي بدت وكأنها خليفة الجيش في الذود عن الإرث الأتاتوركي حيث أطلقت أجهزتها الرئيسية العليا ممثلة في محكمة الاستئناف المدعي العام التركي مجلس الدولة ومحكمة النقض بيانات تحذر حكومة أردوغان من مغبة المضي قدما في هذا الدرب الذي ارتأوا فيه تهديدا للعلمانية والسلام الإجتماعي وزعزعة لأسس الدولة الأتاتوركية. والأدهي أن المؤسسة القضائية لم تتورع عن تجييش مؤيدي حظر الحجاب من أجل إستثارة المحكمة الدستورية العليا وحثها علي رفض التعديل الدستوري بشأن الحجاب والزج بحزب العدالة إلي ذات المآل الذي آل إليه أسلافه من الأحزاب والحكومات ذات التوجهات الإسلامية. ولا تكمن أهمية المحكمة الدستورية العليا في كونها الجهة الوحيدة صاحبة الحق في الاعتراض علي التعديلات الدستورية المقترحة بشأن الحجاب فحسب ولكن في أن دستور عام1982 قد جعل من هذه المحكمة ذراعا قضائيا للمؤسسة العسكرية تستقوي به دستوريا في الإطاحة بخصومها سواء كانوا من الحركات اليسارية التوجه أم من الأحزاب والحكومات الإسلامية الهوي رغم أن المحكمة الدستورية لم تدل بعد بدلوها حيال مبادرة حزب العدالة الخاصة بالحجاب وبرغم الصياغة القانونية المحكمة والرصينة التي أعد بها الحزب تعديلاته المقترحة إلا أن إصدار مجلس الدولة لبيان احتجاجي عاود خلاله التأكيد علي رفضه و المحكمة الدستورية السماح بالحجاب إيمانا منهما بأن احترام الحريات علي أساس ديني إنما يغذي الاستقطابات ويشعل الخلافات داخل المجتمع التركي كما يشكل مساسا خطيرا بعلمانيته يؤجج مخاوف حزب العدالة من إحتمالات الحصار أو التجميد بجريرة تسييس المحكمة لقضية الحجاب مثلما جري فيما مضي لاسيما بعد أن شرع المدعي العام الجمهوري للمحكمة العليا في جمع الأدلة والتصريحات الصادرة عن حزبي العدالة والحركة القومية بشأن الحجاب إستعدادا لإقامة دعوي قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا يطالب فيها بإغلاق الحزبين معا مستندا إلي نصوص قانون الأحزاب السياسية التي استخدمت من قبل لتسويغ إغلاق حزبي الفضيلة والرفاه بسبب سعيهما لرفع الحظر عن الحجاب قبل عقد ونيف من السنين. و يعزز من مخاوف حكومة العدالة والتنمية كون موقفها القتالي في معركة الحجاب يعاني من الإنكشاف الدولي في ظل غياب الدعم الأوربي الرسمي لجهود إلغاء الحظر علي الحجاب فعلي الرغم من تعاطيها الحكيم والحصيف مع القضية إستنادا لإعتبارات حضارية ترنو إلي تعزيز الديمقراطية والعلمانية في الدولة التركية عبر صيانة الحريات الفردية وتمكين المرأة المحجبة ما يدعم مساعي أنقرة للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي إلا أنه وخلافا للتحركات والمبادرات الإصلاحية السابقة التي تبنتها حكومة العدالة والتنمية والتي حظيت بتأييد غربي رسمي في مواجهة العسكر وغلاة القوميين الأتراك لم تكن الأمور تمضي علي الوتيرة ذاتها فيما يخص قضية الحجاب إذ أفتت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في العام2005 بأن منع الحجاب في الجامعات التركية لا يشكل انتهاكا للحقوق الأساسية للأتراك بقدر ما هو ضروري لحماية نظامهم العلماني من الحركات المتطرفة. ويمكن الإدعاء بأن غياب الدعم الغربي لحزب العدالة في معركة الحجاب حاليا إنما يشي بوجود شيء من التشكك من قبل الغرب حيال نوايا حزب العدالة مستقبلا فلربما ينم ذلك القدر من التفهم الغربي لموقف مناهضي حكومة الحزب عن تخوف من تداعيات نجاحها في تجاوز تلك المحنة وإسقاط واحد من أهم وآخر حصون الإرث الأتاتوركي. وما بين ترقب غربي وتشنج تركي داخلي تبقي تهديدات'لعنة الحجاب' لحزب العدالة وللاستقرار السياسي في تركيا مجددا مرتهنة بموقف المحكمة الدستورية العليا من التعديل الدستوري الخاص بالحجاب, ذلك أنها إذا ما رفضته فستدفع بحكومة أردوغان للعودة إلي البرلمان للتصويت عليه مرة أخري وإذا ما أقره البرلمان ورفضته المحكمة الدستورية ثانية فقد تتفجر أزمة سياسية جديدة لاسبيل للخروج منها إلا بإجراء انتخابات أخري مبكرة قد لا تحمل في طياتها للأتراك بالضرورة ما ينشدونه من حلول جذرية لأزمة تتجاوز السياسة لتطال الهوية. عن صحيفة الاهرام المصرية 14/2/2008