مصر ودورها القومي.. بين تجربة الوحدة وأحداث سيناء جلال عارف من كان يتصور في تلك الأيام كيف ستكون أحوالنا بعد نصف قرن؟! من كان يتصور أن طوفان الأمل الذي اجتاح الأرض العربية من أقصاها حتى أقصاها سينتهي بنا بعد نصف قرن إلى ما نحن فيه الآن؟
كان أكثر من نصف الوطن العربي مازال تحت الاحتلال، وكان الوطن كله يبدأ خطواته الأولى نحو الخروج من عصور التخلف التي طالت. ومع ذلك فقد كان حجم الحيوية في الشارع العربي كفيلاً بزرع اليقين بأن الأيام السوداء توشك على الرحيل، وان وطناً بحجم الأمل يوشك ان يكون الحقيقة الوحيدة التي تفرض نفسها على العالم كله.
كان الأمر أشبه بالزلزال الذي لم يتوقعه أحد، حين جاء الإعلان القنبلة من القاهرة بأن مصر وسوريا قد قررتا الاندماج معا لتكوين أول دولة تجسد الحلم العربي في الوحدة في العصر الحديث، وان استفتاء سيجري بعد ثلاث أسابيع فقط لإقرار هذه النقلة التاريخية.
وهو ما تم بالفعل لتقوم «الجمهورية العربية المتحدة» بقيادة عبد الناصر وبتأييد شعبي جارف لم يقتصر على مواطني الدولتين (سوريا ومصر) بل تجاوزه إلى كل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
كان عبد الناصر يعرف أن الأوضاع ليست مهيأة لهذه الخطوة المتقدمة التي ستستقطب بلا شك عداء الكثيرين داخل المنطقة وخارجها، وكان متمسكاً بنهج يركز على تفعيل الدفاع المشترك والتنسيق الاقتصادي والثقافي والاجتماعي من خلال اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي، ولكن الجانب السوري كان يشدد على أن الأوضاع لن تنتظر والحشود العسكرية على الحدود، وبدون الوحدة الكاملة والفورية .
فإن سوريا ستسقط، ومصر ستحاصر وسيتم فرض الأحلاف الأجنبية التي كانت أميركا تخوض معركتها بشراسة، وستمنع رياح الاستقلال من اقتلاع الاحتلال الذي مازال يسيطر على نصف الوطن العربي، وستضيع فرصة قد لا تتكرر بسهولة لكسر واقع التجزئة الذي يراد أن يكون المصير الذي لا يرى العرب غيره للأبد.
واستجاب عبد الناصر وكانت دولة الوحدة وسط حماسة شعبية لم ولن تتكرر، ومع عداء ضم قوى عربية إلى قوى إقليمية إلى القوي العالمية المتصارعة على النفوذ في المنطقة.. سواء منها تلك التي مازالت تتشبث ببقايا إمبراطوريات في نهاية عمرها أو تلك التي تخوض حرباً لوراثة تلك الإمبراطوريات.
وكانت التجربة صعبة والتحديات كبيرة والأخطاء الذاتية هائلة. ولم تصمد التجربة لأكثر من ثلاث سنوات ونصف ليقع الانفصال في سبتمبر 61 ليكون الخطوة الأساسية على طريق التراجع الذي انتهى بعد ذلك بهزيمة 67.
وها نحن بعد خمسين عاماً من بداية التجربة الوحدوية الكبرى نمر على الذكرى بصمت تعودنا عليه. لم يعد في مقدورنا أن نتذكر ونبحث ونستخلص الدروس ونستفيد منها. ولم يعد حلم الوحدة يجد مكانا له في زمن تتعرض فيه الأوطان المقسمة إلى تقسيم جديد، وتتفتح فيها أبواب الجحيم لحروب طائفية وعرقية لم يكن يمنعها ولن يستطيع أو يوقفها إلا هذا الجامع العربي الذي يوحد الجميع في مواجهة الأخطار.
نمر على الذكرى بصمت، ولكن كيف تمر علينا الذكرى؟ في العراق تبدو المأساة بلا نهاية، وآخر التقارير الدولية يقول إن عدد ضحايا الاحتلال الأميركي حتى الآن قد تجاوز المليون، بينما كل ما يهم الرئيس الأميركي نصير الديمقراطية وحقوق الإنسان أن تخرج بلاده منتصرة من هذه الحرب غير المبررة وغير الأخلاقية فتصبح أمام العالم مجرد «نمر من ورق»®.
ولا يهم إن كان البديل مليونا آخر من الضحايا العراقيين، وملايين أخرى تضاف للملايين من المهجرين داخل وخارج العراق!! أما السودان والصومال فرهن المذابح والحروب الأهلية، بينما الإرهاب يضرب من الجزائر إلى اليمن، والأزمة في لبنان تتفاقم، ونضال الشعب الفلسطيني الأسطوري ينتهي إلى استباحة البندقية الفلسطينية للدم الفلسطيني،
والى سلطة وهمية تقودها فتح في الضفة وسلطة وهمية أخرى تقودها حماس في غزة التي أنهكها الحصار الظالم لينتهي الأمر باقتحام الحدود مع مصر بحثاُ عن الغذاء والدواء، واحتضان المصريين لأشقائهم في مشهد رائع لن يقلل منه حادث فردي أو محاولة للوقيعة، أو مخاوف أمنية مشروعة أو خلافات في الرأي تثور بين الأشقاء. المهم هو هذا المشهد الرائع العفوي الذي أدرك فيه الجميع أن المعركة واحدة والمصير مشترك، وما أكده هذا المشهد من علامات فارقة في المشهد العربي كله.
فها هي جهود ثلاثين عاماً في محاولة إبعاد مصر عن «الهم الفلسطيني» تنتهي إلى لا شيء، فمصر في قلب الصراع رغم كل القيود التي حاولت أن تكبل حركتها منذ كامب ديفيد والاتفاق مع إسرائيل. مصر في قلب الصراع وليس هذا من قبيل التضامن أو الدعم، بل لأنها تدرك أن هذا جزء أصيل في أمنها الوطني، ولان مصر لا يمكن أن تأمن على نفسها وعلى حدودها ترسانة إسرائيلية من الأسلحة التقليدية والنووية وكيان قائم على التوسع والابتزاز.
وهاهم مواطنو مصر الذين يتعرضون على مدى عقود لأبشع حملة تضليل تقول أنهم قاتلوا وضحوا لسنوات طويلة معارك ليست معاركهم، ولو أنهم أغلقوا الباب على أنفسهم لكانوا أفضل حالا.. ها هم في لحظة واحدة يقولون للجميع إن معاركهم كانت المعارك الصحيحة، وان تضحياتهم كانت من أجل امن لم يستطع قطر عربي أن يحققه منفرداً، ونهضة لن تتحقق إلا بتضامن الجميع.
وها هو الوعي الشعبي الذي رفض كل الضغوط أو الإغراءات للتطبيع مع العدو الإسرائيلي يثبت انه كان على حق. وها هي المعاهدة التي قيل إنها ستحقق الأمن والسلام وتوفر الظروف للنهضة والتقدم تصبح محل تساؤل .
كما لم تكن من قبل، بعد أن ثبت للجميع أن أمن مصر لم يهدده الأشقاء الفلسطينيون وإنما هددته وتهدده القيود التي وضعتها المعاهدة على الوجود العسكري المصري في سيناء، والتي لم يعد ممكناً استمرارها بعد الآن كما تقول المصادر الحكومية بعد أن كنا نقول ذلك منذ اليوم الأول فنتهم بأننا أعداء للسلام!!
وها هي الأضواء تسلط على مخططات إسرائيلية وأميركية قديمة تستهدف سيناء وتشكك في مصريتها لا أظن أنها كانت بعيدة عن أنظار الاستراتيجيين المصريين ولا عن اهتمامهم. ولكن ذلك لم يعد يكفي، فالمواجهة تستدعي استعادة الحرية الكاملة لقدراتنا العسكرية على كل شبر من أرض سيناء، مع تفعيل الخطة الموجودة بالفعل لتعمير سيناء،
والتي لم تمض قدماً كما كان مأمولاً إلا في مجال السياحة ربما بسبب نقص الإمكانيات، وهي قضية لا أتصور أن تظل مؤجلة في وقت تتوافر فيه الموارد للعالم العربي كما لم يحدث من قبل.
ولكن.. لماذا سارعت إسرائيل إلى الحديث عن تصدير المشكلة إلى مصر، وعن احتمال قطع إمداداتها لقطاع غزة من الكهرباء وغيرها من المستلزمات التي كانت حريصة على إبقائها تحت سيطرتها وذلك لنقل تبعة ذلك إلى مصر؟
بالطبع تريد إسرائيل تثبيت الأمر الواقع الذي تحاول فرضه منذ «انسحابها «من جانب واحد من غزة، وهو الانسحاب الذي لم يمنع سيطرتها الكاملة على القطاع ثم فرض الحصار عليه وتجويع سكانه، مع إطلاق يدها في الاغتيال والمداهمة واجتياح المدن والمخيمات وهدم المنازل وقتل الأبرياء، دون أن تتحمل تكلفة الاحتلال،
بل وهي تريد ان تفرض مفهومها بان القطاع ليس تحت الاحتلال وبالتالي تتحلل من الالتزامات التي تفرضها الشرعية الدولية على أي قوة احتلال. وتريد إسرائيل أيضاً تثبيت الانفصال بين الضفة وغزة، وقطع الطريق على أي محاولة لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
وحتى وهي تعرف أن مصر قد رفضت رفضاً قاطعاً كل المحاولات لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 67، أي وضع القطاع تحت الإدارة المصرية، وترك الضفة للخيار الأردني. حتى وإسرائيل تعرف الرفض المصري، فإنها تمضي في «اللعبة» بهدف استمرار الحصار على غزة وانتزاع إقرار عربي ودولي بمشروعية ذلك خوفاً من تصدير المشكلة إلى مصر أو إلى العرب.
ومع فإن إسرائيل تعرف أن المضي في هذا الطريق سيكلفها غالياً. فمن ناحية لا يمكن أن تقبل مصر تصدير المشكلة إليها. ومن ناحية ثانية هي تعرف أن مواطني غزة قد يبحثون عن متنفس في سيناء يحصلون من خلاله على الغذاء والدواء وبعض الهواء غير الملوث بسموم الاحتلال، ولكنهم بالقطع يرفضون أي محاولة لحل يقتلعهم من أرضهم أو ينهي حلم الدولة الفلسطينية أو يقطع ما بينهم وبين القدس والضفة.
تعرف إسرائيل ذلك، وتعرف أيضاً ان المضي في هذا الطريق ربما يكون ضحيته في النهاية هي اتفاقية السلام مع مصر بكل ما يعنيه ذلك ومن هنا فهي تمارس الضغوط بحسابات تشارك في ضبطها الولاياتالمتحدة الأميركية وتستهدف أموراً عدة في المقدمة منها بالطبع ترديد الحديث المكرر عن أمنها المهدد سواء بفتح جبهة جديدة عن طريق النقب أو بالخارج في تهريب أسلحة حديثة إلى داخل غزة.
لكن إسرائيل تعرف أن هذه احتمالات موجودة حتى بدون فتح المعابر، ومن هنا فالأهم بالنسبة لها ولواشنطون أيضاً هو الرسالة السياسية التي تستهدف منع تحويل ما حدث عند المعابر إلى حالة عربية عامة تضغط من أجل تطبيق قرارات سابقة للجامعة العربية بفك الحصار عن غزة،
وتضغط من أجل إتمام المصالحة الوطنية الفلسطينية. ثم محاولة حصار ما حدث حتى لا يتحول إلى ظاهرة تحتضن فيها الجماهير العربية عودة مصر إلى ممارسة دورها بهذه الايجابية التي افتقدتها الأمة طويلا، وخسرت بسبب ذلك الكثير. عن صحيفة البيان الاماراتية 10/2/2008