الحجاب: رفض العلمانية لمبدأ الحرية د. الصادق الفقيه تظاهر الآلاف في العاصمة التركية أنقرة احتجاجا علي خطة الحكومة بالسماح للنساء بارتداء الحجاب، وليس فرضه، في الجامعات التركية. ويخشي المتظاهرون، الذين تمسحوا بضريح أتاتورك وسألوه العفو والعون والنصرة، من أن تفضي هذه الخطوة، حسب زعمهم، إلي تشريعات تمهد لتطبيق الشريعة الإسلامية في تركيا العلمانية، التي يتجه برلمانها التركي إلي تعديل دستوري يخفف الحظر علي ارتداء الحجاب في الجامعات، الذي كان قد فرض في الثمانينيات من القرن الماضي. فقد تجمع المتظاهرون عند ضريح مصطفي كمال أتاتورك، مؤسس الدولة العلمانية في تركيا، وهم يحملون صوره والأعلام التركية، وهاجموا خطوة الحكومة التركية، ذات التوجهات الاسلامية، باتجاه التعديل الدستوري من أجل السماح للنساء بارتداء الحجاب في الجامعات التركية. وتقول الحكومة إن حظر الحجاب في الجامعات يحرم آلاف النساء من التعليم العالي. وتُعتبَر حرية الإرادة ضرورية جداً للإلتزام بقوانين الشريعة الإسلامية، في حين كانت العلمانية تعتبرها ضرورية لتأسيس العلاقات في المجتمع الليبرالي. ولكن أنصار حرية العلمانية المتطرفين كانوا، إلي حدٍّ كبير، أعداءً لأنصار حرية الروح، وحرية الضمير من المتدينين. وأكثر أشكال المعارف الدينية والتشريعات الإسلامية أسَّست بناءها التحتي علي حرية الإرادة. بينما يؤسس العلمانيون الأتراك الحرية علي النفي الجذري لحرية إرادة الآخر المتدين. وقد يبدو ظاهرياً أن المناداة بالحرية للجميع هي من بديهيات العلمانية الليبرالية، إذ لا قيمة للفكرة عندما تخلو من الحرية، لكن لا أحد يعتقد أن علمانيي تركيا يقصدون هذا المعني البسيط والبديهي. ولو أمعنا النظر في المظاهرات التي ينظمونها للإبقاء علي قانون منع الحجاب لذهب بنا التحليل المنطقي إلي أن الحرية المقصودة بمناداتهم لدولة العلمانية هي لهم وحدهم وليست لغيرهم. بل المقصود هو اعتبار الحرية للإنسان حقاً طبيعياً يمنع الآخرين من الحيلولة بينه وبين ممارسة هذه الحرية بكل حرية، دون حاجة لاستئذان أحد، حكومة كان أم جماعة دينية أم سياسية، ما دامت هذه الحرية لم تسبب الأذي المادي الذي يمكن إثباته، للآخرين. رغم أن العلمانية، في دعاواها العامة، تري أن مسألة الحرية يمكن أن تستخلص من الوجود العام، أو أن تؤسِّس علي الوجود المشترك مع الآخر المختلف. والموضوعي، بالنسبة لها، سيكون علي الأقل موضوعاً نفسياً يتلاءم مع هذا الإدعاء العام. ولكن لا يمكن معالجة مشكلة الحرية بوصفها سكونية، بل ينبغي أن تُعالَج معالجة دينامية، مع مراعاة الأوضاع المعقدة، وأطوار الحرية ومطلوباتها المختلفة لدي الآخرين. فحرية الرأي تعني أن يمارس المرء حرية السلوك، دون أن يدفع ثمناً من كرامته أو فروض دينه، إذا ما خالف قانون العلمانية المحروس بالمؤسسة العسكرية غير الديمقراطية. حيث يتعامل القانون الجزائي في تركيا العلمانية مع مظاهر التدين والفكر الإسلامي كجريمتين جنائيتين، تتساويان مع جنايات القتل، وهتك العرض، والسرقة، وتعاطي المخدرات، وليس كمطلوبات دينية ترتبط بصميم الحقوق والحريات العامة والخاصة. والحرية التي تجسد وجود الإنسان في البلد، أي بلد هي الحرية التي لا تحاسب الإنسان علي رأيه، مهما كان موضوع السلوك الذي يتبعه، في الدين، أو الإعتقاد الأيديولوجي، أو السياسة، أو نقد المؤسسات العامة، خاصة المؤسسة العسكرية، وهو ما لا نجد له مثيلا سوي في تركيا. حيث تنصب المؤسسة العسكرية حارسا لكل شيء في البلاد، عدا الحريات الدينية. وبجانب المؤسسة العسكرية المتنفذة، يري الكثير من المراقبين أن هناك تنظيما قويا سريا واسع النفوذ في تركيا، يطلق عليه اسم الدولة العميقة، أو الدولة المتجذرة، التي هي عبارة عن شبكة كبيرة من الأفراد والمنظمات، والتي تعمل تحت الأرض، وبعيدا عن الأضواء، دون أن يتجرأ أحد إلي التطرق إليها، أو الحديث عنها، ومهمتها حماية الجمهورية التركية من الأعداء في الداخل والخارج، حسبما تدعي وتظن. في حين يصر السيد رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء المنتخب عن حزب العدالة والتنمية، علي أن رفع الحظر عن الحجاب هي مسألة تتعلق بالحريات، وتتعلق بالاعتقاد والاختيارات الشخصية للمواطنين الأتراك، إلا أن مؤسسات الدولة العلمانية، الخفية والعلنية، تنظر للمسألة علي أنها سياسية تهدف إلي تقويض مباديء العلمانية، التي ليس من بينها التأسيس العادل للحريات العامة والخاصة. ويري الجيش أن هناك عددا من المباديء لا يجوز المساس بها، وهي بمثابة أسس الدولة التركية، وتشمل الأتاتوركية، والملف الكردي، والمسألة الأرمنية، وعلمانية الدولة، والإنتماء العرقي التركي لجميع السكان. وهي جميعا أسس عنصرية تتقاطع وتتعارض مع أبسط قواعد حقوق الإنسان، والقيم الدينية والكونية الضامنة للحريات، وتعوق الجهد التركي القاصد للانضمام للاتحاد الأوربي. فقد فاز حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم باختبارات الرأي العام التركي، في أكثر من جولة منافسة عامة، تعززت بحصوله علي مقعد الرئيس، بعد أن تمرس لسنوات طويلة في الجهاز التنفيذي. وحظي حزب العدالة، في معركته القانونية، بدعم الحزب القومي المعارض لتعديل الحظر الدستوري علي ارتداء الحجاب في الجامعات. ولكن رغم قدرة الحزبين الكبيرين علي إدخال التعديل المطلوب علي دستور البلاد العلماني، إلا أنه من المؤكد أن هذا التعديل سيتم الطعن فيه أمام المحكمة الدستورية العليا. وتظهر معركة الحجاب في تركيا أن ممارسة الحرية، تواجه بالمؤسسات السرية والعسكرية العلنية، وتضبطها الحدود التي يفرضها القانون، وتتعرض بغير رحمة لعقابه، وكذلك تتعرض هذه المؤسسات للمواضعات التي يرسمها العرف، وتتعسف في مواجهتها. ولكن حجم ما يمارس من حرية، ويواجه بالقانون، مقارناً بحجم ما يمارس من حرية، ويواجه بالضبط المؤسسي، أمر له دلالته المهمة في الحالة التركية، وكذلك له تأثيره علي الممارسة السياسية، ونجاعة الحكومة المنتخبة وقدرتها علي الحكم والقيادة. فإذا كانت كل ممارسة للحرية، تقع تحت طائلة القانون، فإن المتاح للمتدينين في تركيا يتضاءل حتي يصل إلي غطاء الرأس، أي الحجاب، وربما يتجاوزه إلي أصل الاعتقاد، إذا جاهر المرء به وأذاعه رأيا سياسيا علي الناس. أما إذا كان للحكومة الحالية من مشروعية في ممارسة الحكم بحقه الإنتخابي، فإن ممارسة الحرية يجب أن توضع في مقدمة الأولويات، لا أن تتعرض لمحك اختبار المصداقية والمسؤولية والقبول، بتطرف العلمانية التركية. عن صحيفة الراية القطرية 6/2/2008