بناء استراتيجية جديدة للناتو د.محمد قدري سعيد لا أحد يمكنه إنكار حقيقة أن حلف الناتو قد اصبح في اقل من عشر سنوات قريبا من العالم العربي ومنطقة الشرق بصورة لم يكن أحد يتصورها من قبل. فخلال هذه الفترة القصيرة, أدار الناتو حوارا أمنيا مع ست دول عربية بالإضافة إلي إسرائيل في إطار متوسطي بدأ في1994, ويسعي الآن إلي ترقية هذا الحوار إلي تعاون عملي, ثم انفتح أخيرا علي منطقة الخليج منذ يونيو2004 ببرنامج تعاون أمني مازال في أطواره الأولي علي مستوي المحتوي وعدد الدول المشاركة فيه. لكن الأهم من ذلك ان حلف الناتو الذي كان واجبه الأول قبل1999 الدفاع عن أوروبا وعن أعضائه عبر الأطلنطي, متورط الآن في حرب حقيقية دخل أفغانستان منذ أغسطس2003, ويسقط له كل يوم ضحايا في عمليات قتالية إلي درجة ان شعوب الدول المشاركة في هذه المهمة تدرك الان ان دولهم في حرب حقيقية وليس في مهمة حفظ سلام كما كانوا يظنون. بل يغوص هذا الإدراك إلي حد الخوف من خسارة الحرب, وسط مناخ ثقيل معبأ بعدم اليقين حول أسباب هذه النتيجة غير المتوقعة ولا شك أن المشكلة في حالة أفغانستان لم تعد مشكلة الولاياتالمتحدة وحدها, بل صارت مشكلة التحالف الغربي بأكمله, وما قد يمثله انسحاب الناتو من أفغانستان وسط هذه الظروف من نكسة استراتيجية مهينة, ليس لها شفاء في المستقبل المنظور. ربما لم تعاني منظمة أمنية علي مستوي العالم من عدم اليقين بعد انتهاء الحرب الباردة مثل الناتو برغم أنه كان الحلف المنتصر في هذه الحرب. ويأتي عدم اليقين عادة من عجز في الرؤية والفهم والتوقع, إما بسبب سرعة التغيير أو من طبيعته أو لكثرة وتداخل العناصر المؤثرة فيه. وقد حاول حلف الناتو التعامل مع هذه المشكلة بالتكيف معها من خلال تحولات فكرية في صلب مفهومه الاستراتيجي بدأت في1999 بمناسبة مرور خمسين عاما علي إنشائه. عندما قرر مد مهامه إلي خارج منطقة مسئوليته الدفاعية في أوروبا في مواجهة تهديدات من نوع جديد قد لا يرقي التعامل معها إلي مستوي استخدام العمل المسلح. لكن حرب كوسوفو جاءت علي غير هذا التوقع, ومن نتائجها تمكن الناتو من توسيع رقعة مسئوليته الدفاعية حتي حدود العراق وإيران بعد انضمام دول إليه كانوا من قبل أعضاء في حلف وارسو, أو كانوا جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق. لكن التجربة عسكريا وسياسيا لم تخل من قصور ظهور في الاعتماد شبه الكامل علي القوة الضاربة الأمريكية والبريطانية, فضلا عن مواجهة صعوبات ملموسة في الإدارة السياسية والعسكرية للحرب. فقرارات الحرب علي كل المستويات كانت لا تمر إلا بالإجماع الكامل, بما في ذلك قوائم ضرب الأهداف بالصواريخ. أعادت أحداث11 سبتمبر حلف الناتو إلي المربع رقم واحد, وبعد ان ظن انه امسك بتلابيب الصورة الإقليمية في أوروبا وما حولها بدرجة يقين مريح, وجد نفسه وسط ضباب عالمي كثيف من التهديدات الخطرة والغامضة والنافذة إلي قلب التحالف في واشنطن ولندن ومدريد وأنقرة وغيرها من العواصم والمدن. وظنت أمريكا أن في امكانها القيام بالمهمة وحدها أو مع الراغبين من الأصدقاء, فلم يكن ممكنا اللجوء إلي الناتو في وجود اعتراض أعضاء كبار في الحلف مثل فرنسا وألمانيا. لكن تطور الأمور في كل من العراق وأفغانستان في غير القوي الغربية جعل اللجوء إلي الناتو ضروريا لوضع كل الأطراف أمام مسئوليتها الجماعية. والنتيجة تعثر الناتو في أفغانستان, والولاياتالمتحدة في العراق, ووصل الناتو إلي مفترق طرق: إما الانتصار في هذه المعركة أو الموت والتلاشي. ولقد تأخر هذا الإدراك الجماعي كثيرا وسط شقاق أوروبي أمريكي من جهة, وبين ضغوط داخلية من شعوب الدول المشاركة والتي لم تكن تتوقع أن تضحي بشريا أو ماديا مرة أخري بعد انتهاء الحرب الباردة من جهة أخري. لهذا الغرض عكفت مجموعة من القادة والمفكرين العسكريين والاستراتيجيين من دول حلف الناتو علي دراسة سوف تتحول بعد ذلك إلي وثيقة هدفها وضع استراتيجية عليا جديدة لحلف الناتو, وتجديد الشركة الأطلسية في عالم يتغير بسرعة كبيرة. وقد انتهت هذه المجموعة من المسودة الأولية لهذه الدراسة حيث يتوقع أن يتم مناقشتها في قمة الناتو القادمة, وقد يخرج منها مفهوم استراتيجي جديد للحلف في2009 بمناسبة مرور ستين عاما علي إنشائه. والدراسة تمثل من وجهة نظري صحوة في الفكر الاستراتيجي الغربي, ونقله في مستوي رؤية الخطر الماثل وكيفية التعامل معه جماعيا, وعودة مرة أخري إلي الفكر الواقعي القائم علي أحكام القوة العسكرية, وغير العسكرية, والجغرافية السياسية. والدراسة تبدأ من فرضية مدهشة: أن صفة عدم اليقين ليست شيئا في الظاهرة نفسها ولكنها في المراقب لهذه الظاهرة, وأن علي المراقب وليس الظاهرة أن يتغير ويحول عدم اليقين إلي يقين من خلال امتلاكه هو لقدرات جديدة سياسية وعسكرية وفكرية تتناسب مع سرعة التغيير وطبيعته. وبناء علي ذلك تطرح الدراسة إصلاحا عميقا في الإدارة السياسية والعسكرية للحلف, وفي علاقة الحلف بشركائه والمنظمات الأخري مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وباختصار تدعو الدراسة في النهاية إلي اقامة تحالف عالمي للدول الديموقراطية لا يقتصر علي أوروبا وأمريكا فقط بل يمتد إلي العالم كله. قدمت الدراسة ثلاث أجندات لتغيير الناتو أو لجعله قادرا علي تحويل ما يراه من عدم اليقين إلي يقين علي المدي القريب والمتوسط والبعيد. الأجندة العاجلة تقوم علي إحداث ثورة في عملية اتخاذ القرار. فحلف الناتو منذ إنشائه كان نموذجا للبيروقراطية البطيئة في اتخاذ القرار. وفي هذا المجال, اقترحت الدراسة اقتصار استخدام مبدأ الإجماع علي المجلس الأعلي للحلف وهو المعني باتخاذ القرار السياسي للحرس; أما المستويات الأقل من ذلك فيتخذ القرار فيها بالأغلبية. والدول التي لا تشارك بالقوات ليس لها حق المشاركة بالرأي في إدارة العمليات العسكرية. كذلك إعطاء القادة علي المستوي الميداني كل السلطات علي الوحدات العسكرية التابعة لهم والقادمة من دول مختلفة, وعلي هذه الوحدات أن تنفذ أوامر قادتها بدون انتظار قرار من عواصم حكوماتها. وقد عانت الحرب في أفغانستان من هذه الازدواجية في القيادة, مما أدي الي تضييع كثير من الوقت والجهد وسط ظروف تتطلب ردا عسكريا سريعا. كما يجب أن تحصل الوحدات الخاصة المكلفة بالرد السريع داخل الحلف بحق المبادرة في الرد من بداية العمليات وبدون الرجوع مرة أخري إلي مجلس الحلف. وفي هذه النقطة تنتقد الدراسة نقص التعاون بين دول الحلف في مجال الاستطلاع والمعلومات, وتعطي أهمية عظمي لتطوير قدرات الناتو الاستخباراتية. كما تنتقد الدراسة التوزيع غير العادل للإنفاق, وتطالب بأن تتولي كل دولة مصاريف مراكز القيادة الموجودة علي أرضها. وربما ولأول مرة يعطي الناتو أهمية قصوي لحرب المعلومات, وأن عليه واجب سرقة الكاميرا من الخصم, وأن يسبقه في نشر المعلومات وبناء الثقة مع المواطن العادي بشكل عام وداخل الدول المشاركة في الحرب بشكل خاص. وعلي المدي المتوسط, تركز الدراسة علي أهمية إعادة بناء التحالف الأطلسي علي أساس الالتزام الكامل لكل الأعضاء بالمشاركة بقدراتهم العسكرية وغير العسكرية بما في ذلك مجالات الدبلوماسية والحصار الاقتصادي والتكنولوجي. كما يجب القضاء علي التنافس والتشاحن بين الحلف والاتحاد الأوروبي, وأن يقدم الاتحاد قدراته المختلفة غير العسكرية إلي الحلف, وهذا يسري أيضا علي الدول غير الأعضاء والداخلة مع الحلف في شراكة استراتيجية. أما الدول الراغبة في الانضمام إلي الحلف أو الدخول في شراكة معه فعليها التمسك بأهدافه, والعمل بجدية من أجل تحقيقها. وفي النهاية تدعو الدراسة إلي تجاوز التحالف التقليدي القائم في الأصل بين أمريكا وأوروبا, والعمل من أجل بناء حلف عالمي جديد لديموقراطيات علي امتداد المسافة بين فنلندا وألاسكا يكون واجبه إدارة مصالح هذه الدول وحمايتها. عن صحيفة الاهرام المصرية 2/2/2008