لا ينافس حلف الناتو في البقاء وطول العمر كإطار جماعي يضم مجموعة من الدول إلا الجامعة العربية، مع الفارق العظيم في طبيعة المهمة والدور، وتحديات الماضي وتطلعات المستقبل. يحتفل الحلف بعيد ميلاده الستين في الرابع من إبريل القادم، ففي مثل هذا اليوم سنة 1949 تم التوقيع علي اتفاقية الحلف في واشنطن بواسطة 12 دولة بينهم الولاياتالمتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج والبرتغال وإيطاليا والنرويج والدنمارك وأيسلندا. والآن وبعد ستين عاما وصل عدد أعضاء الحلف إلي 26 دولة سوف يصبحون 28 بانضمام كرواتيا وألبانيا إليه رسميا في إبريل القادم. ومن المعروف أن التجمعات الدولية في صورة أحلاف عسكرية أو منظمات مدنية لا تعيش طويلا، وتؤثر فيها الحروب والتحولات التاريخية إما بالتفكك والانهيار أو بشحوب الدور وتآكله، إلا أن حلف الناتو قد نجح بامتياز في التأقلم مع المحطات التاريخية الكبري بما في ذلك نهاية الحرب الباردة، وأحداث 11 سبتمبر، وحربي العراق وأفغانستان. وبعد أن كان القصد من إنشاء الحلف التصدي بالردع للتهديد السوفييتي علي المسرح الأوروبي، أصبح الآن متورطا في حرب غريبة وسط جبال أفغانستان البعيدة، وفي مواجهة عدو لم يكن أبدا في حسبان من وقعوا علي اتفاقية إنشائه في واشنطن. علي مدي ستة عقود لم يكن مشوار حلف الناتو سهلا، وكان باستمرار مهددا بالانقسام والتفكك من جراء عوامل داخلية وخارجية، لكنه تمكن من مواجهة هذه المخاطر، وكان للولايات المتحدة فضل كبير في الحفاظ علي تماسكه وسط تردد أوروبي كان من أشهره انسحاب فرنسا من قيادته العسكرية، بجانب اعتراضات شعبية من آن لآخر علي دوره النووي، وعلي السماح بنشر بعض أسلحته الاستراتيجية فوق أرض بعض أعضائه، فضلا عن الشعور المستمر بهيمنة القيادة الأمريكية عليه تسليحا وتخطيطا وقيادة. وفي كثير من المحطات التاريخية وكان آخرها حرب العراق، أعادت الدول الأوروبية التفكير في تبني استراتيجية عسكرية مستقلة عن الحلف، لكن التجارب في كوسوفو وفي أفغانستان أثبتت حاجة الغرب إلي الناتو، وأنه لا مناص من دعمه وتطويره بما يناسب الزمن والتهديد والمتغيرات العالمية. من الواضح أن تحديات الحرب الباردة الردعية الساكنة بالنسبة لحلف الناتو كانت أسهل في الفهم والمواجهة من تحديات ما بعد الحرب الباردة الديناميكية والمتغيرة حيث وجد الحلف نفسه في مواجهة نوع من التهديدات الجديدة التي تتطلب عددا أكبر من القوات والتسليح، فضلا عن فهم واستيعاب نوعية التهديد نفسه. ولقد نجح الحلف في البلقان في التعامل مع نتائج انهيار الاتحاد السوفييتي، وإعادة توحيد ألمانيا، وبدون وجود الحلف كان علي دول أوروبا الغربية التعامل مع طوفان من المهاجرين، والاحتراق بنار الحروب الأهلية والعرقية في البلقان. كما كان دوره أسياسيا في إحداث تحولات أساسية علي مستوي الإصلاح السياسي والاقتصادي في هذه المنطقة، الأمر الذي ساعد في تأهيل هذه الدول في فترة قياسية للانضمام إلي الحلف والاتحاد الأوروبي، وخلق فضاء ممتد بالسلام حتي تخوم تركيا وروسيا ودول جنوب المتوسط وشرقه. وقد نجحت الإدارة الأمريكية في عصر كلينتون وسط حماس أوروبي إقامة حوار أمني للناتو مع عدد من دول المتوسط، كما أنشأت مُنتدي مماثلاً بين روسيا والحلف. لكن اختلف الأمر مع إدارة الرئيس بوش الابن من حيث فرض سياسات للتحول علي مستوي القدرات العسكرية والأهداف السياسية لم يكن معظمها محلا للإجماع الأوروبي وخاصة ما كان متصلا بحرب العراق علي سبيل المثال، وفي التعامل مع روسيا مؤخرا في الحرب مع جورجيا. ومع وجود إدارة جديدة في البيت الأبيض، من المتوقع أن يواجه الحلف عددا من التحديات يجب التعامل معها في إطار جماعي يأخذ في الاعتبار مجمل المُتغيرات التي تراكمت خلال السنوات العشر الماضية. ويبرز علي السطح من هذه التحديات التحول في الموقف الروسي من مجرد مُشاهد للأحداث ومُستجيب علي مضض لنتائجها، إلي وضع مُعلن وصريح يرفض المساس بالنطاق الحيوي الروسي نتيجة لتوسع الحلف في دول لا توافق روسيا علي انضمامها للناتو، أو نشر أسلحة استراتيجية بالقرب من الحدود الروسية. إلي أن وصلت الأمور مؤخرا إلي صدام مسلح مع جورجيا، وتجميد روسيا لحوارها مع حلف الناتو، وتهديدها ببيع سلاح متقدم لدول في مواجهة مع الغرب مثل إيران. ومن هذه الزاوية، وإذا لم يتم صياغة سياسات جديدة مع روسيا، فإن مشاريع التوسع للحلف وانضمام دول جديدة إليه سوف تتأثر بدرجة كبيرة في المستقبل. ومع تغير الموقف الروسي، تنظر الدول الأوروبية إلي سياسات الناتو التوسعية بوصفها عاملا مُهددا لأمنها، وليست عامل أمن واستقرار كما كانت تنظر إليها من قبل، وأن الوصول إلي حل تعاوني مع روسيا يجب أن يسبق أية سياسيات توسعًا للحلف في المستقبل. ولاشك أن أسلوب التعامل مع روسيا سوف يفرض نفسه علي قمة الناتو القادمة في إبريل، كما فرضت أحداث البلقان نفسها علي احتفالات الحلف في واشنطن بمناسبة مرور خمسين عاما علي إنشائه، وإن اختلفت الظروف والتوازنات. علي المستوي العسكري تُمثل الحرب في أفغانستان تحديا صعبا أمام الحلف. ولم يكن متوقعا من البداية أن تتحول هذه المواجهة إلي حرب استنزاف خاصة أن الحلف قد بدأ جهوده هناك بعدد مُنخفض من القوات وبدون قراءة واضحة لمسرح العمليات. والمشكلة التي يواجهها الحلف الآن لها أكثر من وجه. فمن ناحية لا بد من زيادة عدد القوات وإعطاء مرونة أوسع للقادة في اتخاذ القرار بدون الرجوع إلي عواصم دولهم، ومن ناحية أخري التعامل مع هذه المهمة من منظور "إعادة بناء الدولة" وليس فقط الانتصار في الحرب، وهذا يتطلب وجود قوة مدنية لإعادة بناء الدولة بجانب القوة العسكرية. وفي إطار النظرة الشاملة الجديدة للناتو، وقع الحلف مع الأممالمتحدة إعلانا مشتركا في سبتمبر 2008 بغرض إضفاء مزيد من الشرعية الدولية علي جهوده وأيضا لتسهيل علاقته مع القوي الأخري العاملة علي المسرح بما في ذلك منظمات المجتمع المدني. ولاشك أن الأوضاع في باكستان سوف تمثل تحديا إضافيا للناتو في تلك المنطقة، وهذا مجرد مثال لحاجة الناتو إلي التعامل مع كل القوي والمنظمات الإقليمية إذا أراد النجاح في مهمته في أفغانستان. يكتشف حلف الناتو كل يوم تهديدا جديدا لم يكن في الحسبان عند إنشائه، وكلها تهديدات تمس بدرجة أو أخري أعضاءه وعليه أن يتصدي لها بأساليب فعالة. ومن بين تلك التهديدات الإرهاب، والدول المنهارة، وتغير المناخ، ونقص مصادر الطاقة والغذاء، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والقرصنة، والحروب الإلكترونية ضد نظم المعلومات والقيادة والسيطرة علي العمليات الحيوية في الدولة. كذلك تحدي التعامل مع منظومة الدول الصاعدة ودورها الأمني علي مستوي العالم مثل البرازيل واليابان وأستراليا والهند والصين وكلها دول لم يعد ممكنا تجاهلها، وأن التحالف الأطلسي بمعناه الجغرافي المحدود يجب أن يتعرف علي القوي الجديدة ويتعاون معها. وفي ضوء هذه المتغيرات سوف يجد الحلف أن الاتفاقية التي قام علي أساسها قد لا تستجيب للتحديات والتهديدات الجديدة، وأن الضرر لم يعد مصدره فقط التهديد العسكري، ولكنه قد ينشأ من مصادر أخري غير تقليدية، وأن التحالف بمعناه العسكري يجب أن يتسع في المعني والمضمون ليشمل المساندة والتعاون والمشاركة، وترجمة كل ذلك إلي صور عملياتية فعالة تليق بحلف عسكري كبير في القرن الواحد والعشرين.