أعباء التركة جورج علم كان الرئيس الراحل رفيق الحريري صلة وصل بين العواصم العربية المتنافرة، يجتهد لفتح الأبواب والقلوب، وإحلال التصافي مكان التجافي، وقد نجح في محاولات وفشل في أخري وبقي في كل الاحوال وجها لبنانياً عربياً بارزاً يعتمد عليه في المنعطفات الصعبة. لم يكن الإبن سر أبيه، ولم تثبت سنوات التجربة بأن سعد الحريري هو فعلاً بحجم الزعامة الحريرية في إطلالاتها المحلية والعربية والاقليمية والدولية، علي الرغم من هالة المستشارين ومن التعاطف اللامحدود مع قضية والده، وقد فتحت أمامه الدور والقصور، واستقبلته عواصم الدول المؤثرة بالترحاب وعلي أرفع المستويات، ومع ذلك بدت نجوميته شاحبة ربما لأسباب وموانع عدة، من قائل انه جاء من بيت المال الي السياسة، ومن عالم التعهدات والمقاولات الي ألاعيب الصفقات والمماحكات، ومن معادلة كل المطلوب والمرغوب ممكن، الي معادلة ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؟!. دلف سعد الحريري الي ساحة الشأن العام تحت الاضواء الكاشف، لينخرط بمشروع سياسي، وبالتالي لم ينطلق من مشروع خاص هو مشروعه، بل جاء ليكمل ما كان، وفي المحصلة اختلاف عميق بين أن يبني لنفسه بدلا من أن يسهم في بناء مشروع غيره، فاخذته الاقدار ربما الي حيث لا يريد. عندما استشهد رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 كان سعد الحريري يمارس هواياته، إلا السياسة، وعندما بايعته العائلة ليكمّل المسيرة، ارتضي من دون أن يكون شموليا بخلفيات الماضي أو بتحديات المستقبل. واستشهد والده في فترة ملتبسة كان فيها صديقه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قد بدأ يعدّ العدّة لمغادرة قصر الإليزيه بعدما سكنه علي مدي ولايتين رئاسيتين، وقد قرر أن يهدي لبنان السيادة والحرية والاستقلال، وأن تتم هذه الهدية في عهد صديقه رفيق الحريري وهو بعد لا يزال في السرايا رئيسا لحكومة كل لبنان، وفكر أن تكون بحجم انسحاب الجيش السوري، وانكفاء النفوذ والسيطرة والتحكم بمقدرات البلاد ورقاب العباد، لكن كيف يكون ذلك والإدارة الأمريكية هي التي أعطت التفويض المطلق للقيادة السورية كي تتحكم بمقدرات لبنان مقابل حفظ الأمن في ربوعه؟!. لم يجهد تفكيره طويلا، ووجد أن الحل ممكن مع الرئيس جورج بوش الذي كان قد باشر بتنفيذ استراتيجية أحادية الجانب مترامية الأطراف في الشرق الأوسط الكبير، للاستيلاء علي منابع النفط والطاقة، وضبط طرق المواصلات والممرات المائية، وتنفيذ رغبات إسرائيل في المنطقة، وكل ذلك تحت شعار مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية وحقوق الانسان، ووجد انه، في ظل هذه الاستراتيجية، علي سوريا أن تمتثل، ولم يعد لها من وظيفة لاستمرارها في لبنان، وكانت نتيجة التفاهم الفرنسي - الأمريكي صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن في الأول من سبتمبر 2004، بعد معركة دبلوماسية ضارية مع كل من روسيا والصين، وفاز القرار بأكثرية تسعة أصوات. إلا أن مفاعيله كانت كارثية، فانسحب الجيش السوري، وحوّلت الإدارة الامريكية لبنان الي خط مواجهة مع دول وجبهات الرفض المناوئة لاستراتيجيتها في الشرق الاوسط الكبير، وتسارعت التطورات فورا فكان التمديد للرئيس أميل لحود، وبدأ مسلسل الاغتيالات مع النائب والوزير مروان حماده، ودفع الرئيس الحريري الثمن غالياً بعد خمسة أشهر من تاريخ صدوره، وورث سعد الحريري تركة لا يحسد عليها: دماء والده، وعداء مستحكم مع سوريا، وانتداب أمريكي محكم علي لبنان يتدخل في التفاصيل، ويوزع التوجيهات، ويحدد مسار الأمور بحجة انه صاحب الفضل في تحرير لبنان من الهيمنة السورية؟!. لم يكن التحدي سهلاً، كان عليه أن يرتدي فوراً عباءة الزعامة، وعليه أن يحمل قضية والده، وأن يحافظ علي كبير رصيده من الصداقات والالتزامات خصوصاً مع الفرنسيين والأمريكيين، ووجد نفسه ينجرف طوعاً في بحر العاطفة الشعبية المتفجرة ضد السوري، ووجد نفسه محاصراً بالمناخ التصعيدي الذي بدأ يعزز معالمه السفير الأمريكي جيفري فيلتمان، وعلي قاعدة أن سوريا هي الدولة المارقة ، حاضنة الارهاب، وأن المعركة معها وليست مع اسرائيل، وأن مجلس الأمن والمجتمع الدولي جاهزان و غب الطلب لرفد لبنان بالدعم السياسي والمعنوي، وبما يشاء من أنواع وأصناف القرارات الدولية؟!. ومع اقتراب الذكري الثالثة لإستشهاد والده، وانقسام اللبنانيين الي فريقين، ومشروعين، وخيارين، ولبنانين، آن لسعد الحريري أن يقوم بجردة حساب تبين له نقاط الربح والخسارة، وهل تمكن من أن يحلق ويكون زعيماً وطنياً أم بقي عند حدود الطائفة، وما تمده به من ولاء وحجم تمثيل؟، وهل سيتمكن بفضل السياسة التي يتبعها من أن يكون رئيساً لحكومة كل لبنان، أم انه قد لا يصل لا الآن، ولا في المستقبل المنظور، إذا ما استمر حيث هو في السياسة وفي التحالفات، وحيث مصير لبنان المشرع علي كل الاحتمالات؟!... كانت أهميته تكمن لو انه في مرحلة من المراحل عرف كيف يركب موج المتغيرات في المنطقة لينتقل من موقع الطرف والتطرف الي موقع الاعتدال، ذلك أن السياسة بقدر ما هي أخلاق ومباديء، بقدر ماهي أيضاً فن إبداع، والسياسي المبدع هو الذي يعرف كيف يجترح الحلول والمخارج المؤاتية والمباديء، لا علي حسابها. أما كيف؟، فهذه مسؤوليته ومدي قدرته علي الابداع؟!. يقول المفكر الراحل إدوار حنين: السياسي الناجح، أشبه بقبطان مجرب، عليه أن يعرف كيف ينقذ المركب من الغرق عندما تشتد عواصف البحر؟!.. وإلا.. لما هو ريس ؟!.. عن صحيفة الراية القطرية 30/1/2008