المملكة العربية السعودية هي التي شجعت رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري علي الإدلاء بحديث صحفي لجريدة «الشرق الأوسط» السعودية يوم 5 أيلول/ سبتمبر 2010 ليرفع فيه الاتهام عن سوريا سياسيا بقتل الرئيس رفيق الحريري يوم 14/2/2005 وليتحدث عمن أسماهم شهود الزور الذين ورطوه.. وطالب بمحاسبتهم وكان حديث الحريري تمهيدا لإعلان الاتفاق بين سوريا والسعودية حول أزمة لبنان، والمملكة العربية السعودية هي أيضا نفسها التي شجعت سعد الحريري علي الإدلاء بحديث آخر لجريدة سعودية أخري هي «الحياة» في الأسبوع الأول من شهر يناير 2011 ليعلن عبرها أنه نفذ ما عليه من التزامات وفقا للاتفاق المشار إليه وأن علي الطرف الآخر أن ينفذ ما عليه. بين الموعدين مطلع سبتمبر، ومطلع يناير أربعة أشهر كاملة، شهدت واحدة من أكثر المفاوضات والاتصالات صعوبة بين قائد المصالحة العربية في آذار/ مارس 2009، الملك عبدالله بن عبدالعزيز وبين المستهدف الأول لهذه المصالحة الرئيس بشار الأسد. فقد جدد الملك مصالحته مع الرئيس من أجل لبنان، وكان لبنان من جديد مقصدا للقاء السعودي - السوري بعد أن أطلق حزب الله حملة تهديدات بدأها دائما أمينه العام ضد اللبنانيين، إذ أصدر القرار الظني في جريمة قتل الرئيس رفيق الحريري وحمل حسب معلومات الحزب المذكور اتهاما لعناصر في هذا الحزب بارتكاب الجريمة الإرهابية. اتفق الملك والرئيس علي سلسلة خطوات تنفذها الأطراف اللبنانية المتصارعة وتحديدا تيار المستقبل الذي يرأسه رئيس الحكومة سعد الحريري، وحزب الله الذي يرأسه حسن نصر الله. من ضمن هذه الخطوات المطلوبة من سعد الحريري رفع الاتهام عن دمشق بقتلها والده عام 2005، والقول بأن هذا الاتهام كان سياسيا، ثم حديثه عن وجود ما يسمي شهود زور قال الحريري إنهم ضللوه وضللوا التحقيق في جريمة اغتيال الحريري الأب، وأنه سيحاسبهم وقد حدث هذا منذ أربعة أشهر. وكان منتظرا أن ينفذ الطرف الآخر أي حزب الله وسوريا ما اتفق عليه الملك والرئيس، بعد أن نفذ الحريري ما هو مطلوب منه، وهو أولا أن توقف دمشق مفاعيل الاستتابات التي قيل إنها قضائية بحق 31 شخصية سياسية وإعلامية وقضائية وأمنية وشخصيات عامة لبنانية وسورية. ثانيا: أن تعمل دمشق علي سحب المنظمات الفلسطينية التي تديرها في دمشق وتنشر معسكراتها المسلحة داخل الأراضي اللبنانية دون أي دور لها سوي تهديد الداخل اللبناني «فأنفاق إحداها علي أطراف مطار رفيق الحريري الدولي، وكلها لم تقم بأي عمل ضد إسرائيل منذ 30 سنة». ثالثا: أن يتعامل القضاء اللبناني مع ما يسمي بشهود الزور، خارج إطار التسييس الذي أصر عليه حزب الله طالبا إحالة قضيتهم المزعومة إلي المجلس العدلي رغم أن ملف هذه القضية المزعومة ليس فيه سطر واحد ولا طبعا ورقة لإثبات ولو واقعة واحدة. لكن وبعد أن نفذ الحريري ما طلبه منه الملك والرئيس لم يكتف أصدقاء سوريا في لبنان ودمشق نفسها بتنفيذ ما هو مطلوب منهم، بل إنهم سارعوا إلي بدء حملة إعلامية وسياسية وشخصية ضد الحريري وحكومته وتياره مع تهديدات علنية بالمواجهة والتصفية، ثم إسقاطات ضد الجميع بالعمالة والخيانة وتنفيذ مخططات إسرائيل. صدمة الملك عبدالله اتصل الملك السعودي بالرئيس السوري بعد أن أرسل له ابنه مستشاره الأمير عبدالعزيز إلي دمشق، ولم يستمع من الأسد مباشرة أو عبر ابنه إلا وعودا وتبريرات وطلبات جديدة لم يكن أي منها قد تحدث فيها سابقا، لكن الأسد قال إنها تساعده علي الضغط علي أصدقائه في لبنان، خاصة جماعة حزب الله كي يقدمها الحزب إلي مرجعيته في طهران! اتصال ثالث أجراه الملك عبدالله، وهذه المرة من أمريكا حيث دخل أحد مستشفياتها للعلاج من آلام في ظهره اضطرته إلي إجراء جراحة دقيقة لها.. كان الملك عبدالله يحدث الرئيس الأسد عن ضرورة تنفيذ ما اتفق معه عليه في لبنان، وكان الرئيس يحاول سحب الملك إلي ما يجري في المنطقة، حتي حسم الملك قوله: أنا همي الأول لبنان، وعلينا أن نخرجه من مأزقه فكل مشاكل الدنيا تنتظر إلا المشكلة في لبنان، وأنت وعدتني وولدنا سعد «الحريري» نفذ ما طلبناه منه أنا وأنت، ويبقي عليك وعلي أصدقائك في لبنان أن ينفذوا ما عليهم، اسحبوا الاستتابات القضائية كما أعلنتموها اسحبوا المعسكرات الفلسطينية المسلحة من البقاع ومن بيروت، اسحبوا قضية شهود الزور واتركوا الحكومة اللبنانية تعمل، ودعوا عجلة الدولة الاقتصادية والإدارية والاجتماعية تدور. يقال هنا إن الملك عبدالله أعطي الرئيس بشار الأسد مهلة لتنفيذ ما اتفق معه عليه من جانبه، فلما انقضت المهلة ولم ينفذ أي تعهد، بل علي العكس دارت حملة شائعات وتهديدات وإعلام حزبي يهذي بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم تعقد جلسة مجلس وزراء لإحالة قضية ما يسمي بشهود الزور إلي المجلس العدلي. عندها من مستشفاه في أمريكا وجه الملك عبدالله دعوة لرئيس الحكومة سعد الحريري لزيارته. ولا نذيع سرا إذا قلنا إن الحريري الشاب توجه إلي لقاء الملك السعودي وهو يتوجس خوفا من إمكانية طلب سعودي منه أن يقدم مزيدا من التنازلات، علما بأن الحريري لم يعد يملك إلا أن يعلن وقف تمويل المحكمة الدولية في جريمة قتل والده من حصة الدولة اللبنانية، أو أن يصدر بيانا ضد القرار الظني وضد المحكمة الدولية نفسها، أو أن يوافق علي إعادة تشكيل حكومة جديدة «بعد أن يقدم استقالته»، وأن يخرج منها أي ممثل للقوات اللبنانية أو حزب الكتائب بهدف تعرية سعد الحريري سياسيا ليصبح تحت رحمة قوي 8 آذار وحزب الله وميشال عون ودمشق تحديدا. مفاجأة الحريري لكن رئيس الحكومة اللبنانية استمع خلال لقائه مع الملك السعودي إلي دعم غير مسبوق، ومساندة لسياسته ومواقفه في لبنان، وأنه أدي ما عليه وأكثر، وأن علي الآخرين أن يوفوا بوعودهم، مع إشارة إلي أن اللبنانيين يجب أن يعرفوا حقيقة الواقع السياسي في لبنان.. دون تردد. وهكذا.. كان حديث الحريري لجريدة «الحياة» إعلانا عن يأس سعودي - حريري من وعود سورية، وتطاولات جماعات دمشق في لبنان وتهديدات حزب الله وحملات التخوين والعمالة واستهداف ما يسمي بالمقاومة. وبدلا من أن يتراجع الذين لم يفوا بوعودهم للملك عبدالله شنوا هجمة ضد الحريري عاملين علي إسقاط حكومته عبر سيناريو تافه سيرتد علي رءوسهم وفق الوقائع التي تتالت. 1- استقال سعد الحريري وكلف بتصريف الأعمال في فترة قد تطول وهو الرئيس الوحيد للحكومة خلالها، فإذا طالت سبعة أو ثمانية أو تسعة أشهر فهذا يعني أن لا أحد سيكون قادرا علي تجاهل مكانة رئيس الحكومة.. 2- سعد الحريري حسب إحصاءات أصوات النواب قبل الاستشارات التي كانت ستجري يومي الاثنين والثلاثاء 17 و18/1/2011 وتأجلت إلي مثليهما في 25 و26/1/2011 عائدا إلي رئاسة الحكومة، والبعض رأي أن تأجيل الاستشارات النيابية سببه تأكد حزب الله ومن معه من أن الحريري رئيس لحكومة جديدة.. 3- القرار الظني الذي يحمّل حزب الله مسئولية قتل الحريري صدر أو سلم إلي قاضي الأمور التمهيدية دانيال فرانسين، وهذا إسقاط لعلم وتهديد رفعهما الحزب المذكور بإحراق البلد إذا صدر القرار. 4- أي تهديد أو محاولة تنفيذ أي أمر عسكري إرهابي، من حزب الله ضد الشعب اللبناني بات ممنوعا بحكم التحرك العربي والدولي الذي أكد من جديد وجود مظلة حماية تواكب المحكمة التي ستقتص من القتلة حتي لا يبقي لبنان وقياداته عرضة لاغتيالات الإرهابيين القتلة الذين استباحوا لبنان منذ أول اغتيال سياسي استهدف القيادي الناصري معروف سعد يوم 26/2/1975 ومات يوم 6/3/.1975 5- القمة الثلاثية في دمشق لقادة تركيا - سوريا ومشيخة قطر هي تنفيذ لإرادة عربية دولية تريدها مصر والمملكة العربية السعودية وفرنسا والاتحاد الأوروبي وروسيا وأمريكا، لترجمة قول رئيس وزراء تركيا أردوغان بأنه ممنوع هز الاستقرار في لبنان، وقد التقي سعد الحريري أردوغان بعد عودته من أمريكا إثر لقائه الملك عبدالله ورئيس أمريكا أوباما والرئيس الفرنسي ساركوزي. وكلهم دعوا إلي منع هز الاستقرار في لبنان، طبعا كان ساركوزي سبق الجميع باتصال هاتفي مع الرئيس الأسد لفته فيه إلي خطورة هز استقرار لبنان علي المنطقة كلها. أردوغان في دمشق نائبا عن التحرك الدولي وشيخ قطر ممثلا المملكة العربية السعودية والعرب بعد أن قطع الملك عبدالله كل صلة مع دمشق لأنه علي حد وصفه استنفد كل الوسائل والمحاولات لإقناع سوريا بأن تترك لبنان دولة مستقلة وأن تعمل علي إقامة علاقات جيدة، وأن تتخلي عن انتقادها بإمكانية حكمه مرة ثانية. 6- صحيح أن دمشق وجماعاتها في لبنان وجدوا في هذه القمة فرصة لتأجيل الاستشارات النيابية التي كانت ستسمي سعد الحريري رئيسا للحكومة، وحاولت ربط قيام حكومة في لبنان بإعلان القرار الظني في جريمة قتل الحريري بعد أن حاولت كثيرا إلغاء القرار دون جدوي. وتهدف دمشق وجماعاتها في لبنان لانتظار متغير ما يقلب الأمور من جديد لمصلحتها، إلا أن هناك أمرا سياسيا بات واضحا للبشرية كلها.. لم يعد أحد ليتوهم إمكانية حصول أي متغير من خلال الاغتيال أو التفجير لماذا؟! لأن الذي يظن نفسه بريئا من اتهام ضده بارتكابه جريمة قتل شخصية بحجم رفيق الحريري يستحيل أن يرتكب جريمة أخري ليثبت براءته من الجريمة الأولي! وأخيرا.. بدأت منذ لحظة قرار حزب الله ودمشق إقالة الحريري مواجهة جديدة، بينما يصر محور دمشق - طهران في المنطقة علي تسميته حلا عربيا وهو محاولة لفرض حل سوري تدعمه إيران، وبين حل عربي - دولي بدأه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عبر ما أسماه مجموعة اتصال عربية - دولية تضمه مع أمريكا والسعودية ومصر وسوريا وتركيا، في رسالة إلي دمشق بأن الذي عاند وهرب من تقديم حل عربي بالاتفاق مع السعودية وملكها عبدالله سيواجه الآن مظلة عربية - إسلامية - أوروبية - أمريكية مسلحة بقرارات الأممالمتحدة 1559 - 1701 - 1757 وما بينها وكلها لا تنظر إليها دمشق ولا إيران ولا حزب الله بأي إيجابية. الآن.. القرار الظني عند القاضي فرانسين وأمامه مهلة بسيطة «بين شهر ونصف الشهر وشهرين» لتحويله إلي المحكمة لبدء جلساتها أو لإعادة التحقيق في بعض بنوده ووقائعه، وكلها توجه الاتهام إلي حزب الله بقتل رفيق الحريري. وبعد القرار الظني سيدخل حزب الله مرحلة أخري مختلفة تماما عن صورته السابقة، فقد أسقط عن نفسه صفة المقاومة عندما اعتدي علي أهل لبنان في مايو 2008 ثم ليفاجأ العالم بأن هذه الصفة سقطت عنه ليصبح حزبا إرهابيا بقراره قتل رفيق الحريري عام 2005 . رئيس تحرير مجلة الشراع اللبنانية