... عن هجاء بطريرك الموارنة حازم صاغيّة لوهلة، يوشك الوزير اللبنانيّ السابق سليمان فرنجيّة أن يدغدغ مشاعر البَرِمين بالتركيب التقليديّ وبتلك اللغة الميّتة في توقير المراجع الدينيّة والمراتب على أنواعها. فهو من يصدر عنه، مرّة بعد مرّة، الكلام غير المتوقّع ولا المألوف الذي يكاد مواطنون كثيرون أن يتفوّهوا به قبل أن يقمعهم نظام روادع داخليّ بالغ الرسوخ ومن طبيعة الأشياء في لبنان. لكن هذا التقدير لا يصمد أمام التدقيق إذ تُضعفه طعون كثيرة. ففرنجيّة، حين يتجرّأ على بطريرك الموارنة، لا يفعل انطلاقاً من تصوّر أكثر زمنيّة وحيويّة للسياسة، بدليل أنه، هو نفسه، نتاج إحدى أكثر التراتبيّات جموداً وتقليديّة وبُعداً عن الحداثة في لبنان. وأغلب الظنّ أن شيئاً من الرثاثة العاميّة يملي عليه نقده ويحرّكه، بحيث يطغى عنده العداء للمؤسّسة، حتى لو كانت دينيّة، على العداء لدينيّة المؤسّسة أو لتخشّب الهرميّة التي تنهض عليها. فكأن في النقد المذكور، أو بالأحرى الهجاء المذكور، ما يذكّر بالتهجّم على الدين من موقع الوثنيّة أكثر مما من موقع العلمنة أو الإلحاد. وتتمّة هذا الموقف نجدها عند حليفه ميشال عون الذي يكيل، بدوره، الضربة تلو الضربة، للبطريرك صفير وما يسمّيه بعض اللبنانيّين «مرجعيّة بكركي». وخلف التوجّه العونيّ ذاك ميل يصعب كتمانه الى إلغاء التعدّديّة في الرأي والقرار المسيحيّين. ذاك أن الجنرال الذي لا يموّه رغبته في قضم رئاسة الجمهوريّة، وهي تعريفاً تعني طوائف عدّة، لن يموّه رغبته في قضم زعامة الطائفة التي يصرّ على كونه ممثّلها السياسيّ الأوحد. والمنحى هذا إنما ينطوي على رجوع الى الوراء، لا على تقدّم الى أمام، خصوصاً أن الزعامات الشعبويّة المارونيّة التي سعت الى توحيد طائفتها وراءها، من يوسف كرم الى ميشال عون، مروراً بكميل شمعون وبشير الجميّل، كانت دائماً أشدّ تطرّفاً من رؤساء الكنيسة وأقلّ استعداداً منهم للتعايش مع جماعات الوطن وأطرافه الأخرى. وحين نستعيد تركيب لبنان الطائفيّ، ونقيس به هجمات فرنجيّة وعون على صفير، لا يفوتنا إلاّ المقارنة بالغضب الذي اكتسح بعض الشوارع البيروتيّة بعد بثّ حلقة تلفزيونيّة اعتُبرت مسيئة للسيد حسن نصرالله، وهو، كما نعلم جميعاً، أمين عام لحزب سياسيّ وليس المرجع الدينيّ الأوّل في طائفته، الطائفة الشيعيّة. وهذا ليس للمطالبة باستبعاد النقد ما دامت القدرة على ممارسته محصورة بجماعة واحدة، مهيضة الجناح الى هذا الحدّ أو ذاك، بل للتنبيه الى دلالات النقد المذكور في ظرف سياسيّ بعينه. ذاك أن الشروط التاريخيّة التي جعلت الموارنة «طائفة الكيان»، يبادرون الى تصليبه وإكسابه المناعة الاستقلاليّة في مواجهة الإلحاق والاستتباع الخارجيّين، آن زمن إنهائها. وفي مهمّة الإنهاء ينشط عون وفرنجيّة، كلّ بطريقته، حين يهاجمان من قيل، بلغة عتيقة ومبالغة، إن «مجد لبنان أعطي له». ومن ضمن العمليّة ذاتها، عمليّة اجتثاث ديناميّات الاعتدال والتسويات، يُضرب «الحلّ العربيّ»، ويُطعن دور لبنان الوسيط مع الغرب في تقسيم عمل باهر بين الممانعين في بيروت ودمشق وطهران وحليفيهم عون وفرنجيّة. عن صحيفة الحياة 19/1/2008