زمن اللامعقول في العلاقة العربية حسن ابو نعمة فتحت السلطات المصرية معبر رفح الاربعاء الفائت، وسمحت لما يزيد على ألفي حاج فلسطيني بالعودة لبلدهم غزة بعد ان حظر عليهم المرور لمدة قاربت الاسبوع، وبعد ان تعرضوا للمعاناة والذل والحرمان والحصار، لدرجة أفقدت البعض منهم القدرة على التحمل، ففاضت أرواحهم الطاهرة الى بارئها. استحق هذا الاجراء الشكر والتقدير كون مصر اتخذت هذا القرار الجريء لانهاء مأساة إنسانية غريبة، غير معقولة وغير مقبولة وغير مسبوقة، وتعتبر بكل المقاييس صفعة في وجه السلوك الإنساني المتحضر، اتخذت مصر هذا القرار الجريء أمام ضغوط اسرائيلية هائلة، طالبت بمنع الحجاج من العودة الا عبر الممر الخاضع للسيطرة الاسرائيلية، معبر كرم سالم، حتى يتعرضوا للمعتاد من التفتيش والاهانة والحجز والاعتقال الذي يتعرض له الفلسطينيون على الدوام على المعابر والحواجز. عندما بدأت أنباء مأساة الحجاج تنتشر، وتقطعت بهم السبل وسط البحر، عبر الرئيس المصري على شاشات التلفزة عن اهتمامه بالامر، وعن الحرج الذي يسببه الموقف لمصر. وقال ان مصر لم تسمح بالعبور عبر حدود مصر مع غزة عند رفح لان "الاتفاق" يقضي وجود مندوبين أوروبيين وفلسطينيين (من السلطة الوطنية الفلسطينية) ومصريين كشرط لفتح المعبر. ما قاله الرئيس المصري صحيح. فذلك الاتفاق الذي أشار اليه كان نتيجة جهود قادتها وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس خلال زيارة لها للمنطقة بعد انسحاب اسرائيل من غزة, ولكن مع الاصرار على ابقاء الحصار وابقاء السيطرة على كل معابر غزة مع العالم الخارجي ونتيجة لجهود الوزيرة رايس تم التوصل لحل وسط فرض رقابة جائرة على معبر رفح مستبدلا الوجود الاسرائيلي بمراقبين اوروبيين. نفهم تماما حرص دولة مرموقة مثل مصر على التزاماتها الدولية، ومسؤولياتها في تطبيق المواثيق والاتفاقات، فذلك ديدن الدولة التي تحافظ على مكانتها وهيبتها وسيادتها. ونفهم أغراض اسرائيل من وراء تحويل غزة الى سجن كبير وبالتالي الى مراقبة كل ما يدخل اليها ويخرج منها. فما كان القرار الاسرائيلي بالتخلي عن غزة من اجل تحريرها واطلاق سراح اهلها من اشر الاحتلال؛ كان في الحقيقة تخلصا من عبء امني بالغ الكلفة ترتبت عليه بالمقابل معاقبة اهل غزة واذلالهم، قبل ان تستولي "حماس على القطاع". ما يستعصي على الفهم هو مسايرة هذا الشر الاسرائيلي من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي، وتلبية شروط الحصار تماما كما ارادت اسرائيل، على حساب القانون والانسانية والحقوق المشروعة فمعبر رفح يقع بين غزة ومصر ولا علاقة لاسرائيل به. فكيف يتاح لاسرائيل ان تفرض على دولة عربية مرموقة مستقلة ذات سيادة ان تضع قيودا، وتضع مراقبين اوروبيين على حدودها لحصار شعب بريء لا ذنب له حتى لو لم يكن ذلك الشعب عربيا؟ وحتى لو وافقت السلطة الوطنية على الامتثال للإملاءات الاسرائيلية وقبلت بمراقبين أوروبيين من اجل فتح المعبر كون السلطة لا تملك من أمرها شيئا، فما الذي يجبر مصر على ذلك؟ ما الذي يجبرها على القبول بإجراء يمس صميم السيادة والكرامة الوطنية؟ أليس علينا أن نتذكر أن اسرائيل لم تقبل منذ خلقت بتواجد أية قوات مراقبة على اراضيها حتى عندما كان وضع مثل هذه القوات لصالحها. فجميع القوات الدولية التي راقبت، وما تزال تراقب خطوط الهدنة مع مصر وسورية ولبنان وغير ذلك، كانت ترفض اسرائيل تواجدها على ارضها، بل تصر على وجودها على ارض الطرف الآخر فقط. لابد من التأكيد، ومن التكرار بأن دوافع واهداف اسرائيل من وراء استمرار الحصار على غزة معروفة، من اجل الابقاء على القطاع كسجن كبير وتقنين كل ما يدخله حتى يظل اهل القطاع تحت تهديد المجاعة والخنق كلما شاءت اسرائيل ذلك، باسم منع تهريب او دخول السلاح. وقد زادت الامور سوءا بعد استيلاء حماس على السلطة في القطاع المنكوب. لقد اقتضت الاملاءات الاسرائيلية ان يزداد الحصار إحكاما وتشتد العقوبات الجماعية. ماذا لو وقع جزء من المائة مما يتعرض له اهل غزة كل يوم، وما يفقدونه من شهداء من ابنائهم كل يوم، نتيجة القصف والتوغل والغارات الجوية على المنازل، ماذا لو وقع ذلك لغيرهم من شعوب الارض؟ بالتأكيد، تعامت الدنيا ولم تقعد، ولانعقد مجلس الأمن وأصدر عشرات القرارات، وتحركت الجيوش لفك الحصار ولمعاقبة المحاصرين ولسمعنا أصوات التنديد والادانة من كل ركن من اركان المجتمع الدولي. ولكن هذا لا يحدث عندما يكون الضحايا من ابناء فلسطين او غزة فهم دائما المعتدون واسرائيل هي "الضحية" التي تدافع عن نفسها. لقد اثبتت مصر، ولها لكل التقدير، انها قادرة على التحكم بحدودها ضمن حق السيادة دون استئذان المجتمع الدولي او اسرائيل او غيرها، بقرارها فتح حدودها وانهاء مأساة الحجاج. ما يجري في غزة غير معقول. ولكن اين المعقول الذي يجري في العلاقات العربية برمتها. نحن نعيش زمن اللامعقول والله يقينا شر ما هو اعظم. عن صحيفة الغد الاردنية 5/1/2008