الهجوم الأمريكي مستمر.. والمعاكس أيضاً د. عصام نعمان بات في وسع اللبنانيين والعرب، مسؤولين ومواطنين، أن يحيطوا بأزمة لبنان بجميع أسبابها وملابساتها من خلال الحديثين التلفزيونيين اللذين أدلى بهما كل من قائد المقاومة اللبنانية أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وزعيم كتلة “اللقاء الديمقراطي" النيابية وليد جنبلاط مساء الأربعاء الماضي 2/1/2008. فقد اتفق الزعيمان، كل من زاويته ولدوافع واعتبارات خاصة بالمعارضة والموالاة، على أن السبب المباشر لإخفاق الجهود التي بذلتها فرنسا وسوريا لتسوية أزمة لبنان هو رفض الموالاة (قوى 14 آذار) الموافقة على إعطاء المعارضة الثلث المكمّل (نصرالله يسمّيه الثلث الضامن وجنبلاط الثلث المعطّل) في عضوية الحكومة الجديدة التي ستعقب انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. ثمة أسباب أخرى مباشرة تتعلق بإجراءات الإخراج، وأخرى غير مباشرة تتعلق بالدوافع الخارجية والداخلية وهي الأهم التي تحدد مواقف الأطراف المتصارعين. مع ذلك يتفق أركان المعارضة والموالاة على رفض المشاركة في الحكومة الجديدة إلاّ على أساس شروط كلٍ منهما. فما خلفيّة السبب المعرقل للاتفاق؟ وما السيناريوهات والتدابير التي قد تلجأ إليها المعارضة بعدما وصل الطرفان إلى طريق مسدود؟ شدد السيد نصر الله في حديثه التلفزيوني على ان خصم المعارضة في أزمة لبنان ليس الفريق الحاكم بقدر ما هو الولاياتالمتحدة. فقد قدّم وقائع وبيّنات تشير إلى أن واحداً أو أكثر من زعماء (قوى 14 آذار) وافق مرات عدّة باسم جماعته على أسس تسوية بل تسويات جرى عرضها خلال المفاوضات بين الطرفين، لكنه عاد عن موافقته لاحقاً، لاسيما في شأن مشروع التسوية الأخير الذي توافق عليه الجانبان الفرنسي والسوري وأخفق الأول في تسويقه لدى قوى 14 آذار. ما السبب؟ يجزم السيد نصر الله بأن إدارة بوش أوفدت منتصف الشهر الماضي دايفيد ولش واليوت ابرامز ليحرضا الفريق الحاكم على رفض إعطاء المعارضة الثلث الضامن، وأن الفريق الحاكم امتثل لرغبتها. جنبلاط لم ينكر في حديثه التلفزيوني هذه الواقعة بل أعطى تفسيراً لها بقوله: إن التسليم للمعارضة بالثلث المعطّل يعني تسليم الحكم في لبنان إلى سوريا وإيران. بصرف النظر عما يمكن ان يُفضي إليه انقطاع المفاوضات بين الموالاة والمعارضة، فقد بات واضحاً أن الولاياتالمتحدة تتدخل على نحوٍ فاضح في الأزمة وتحول دون قيام أطراف خارجيين، كفرنسا وسوريا، بتسويق تسويةٍ لا تخدم أغراض إدارة بوش المحلية والإقليمية. صحيح أن بعض قوى 14 آذار، وليس كلهم، يلتقي لاعتبارات مصلحية داخلية مع الموقف الأمريكي من مسألة الثلث المعطل، لكن ذلك لا علاقة له بما تبتغيه إدارة بوش من وراء حرصها على إفساد أي تسوية ممكنة بين الموالاة والمعارضة في هذه الآونة. فماذا يبتغي جورج بوش وإدارته؟ يريد بوش، أولاً، إقصاء حزب الله عن أي حكومة لبنانية للحؤول دون تمكينه مع حلفائه من تعطيل مخطط أمريكا و"إسرائيل" الرامي إلى تجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها، ووضع الجيش اللبناني في مواجهتها، وبالتالي تثبيت النظام اللبناني بحالته الراهنة جرما يدور في فلكها. ويريد بوش، ثانياً، ان يبقى حلفاؤه المحليون قادرين، من خلال تحكمهم بالسلطة، على توظيف النظام اللبناني في خدمة أغراض أمريكا الإقليمية، لاسيما تجاه سوريا. ويريد بوش، ثالثاً، خدمة “إسرائيل" في إطار مخطط أمريكا الإقليمي الرامي إلى توظيف النظام اللبناني، كما غيره من الأنظمة العربية ذات الصلة، في مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم حالياً، أي في لبنان وسوريا والأردن ومصر. إن اتضاح أغراض أمريكا الإقليمية إزاء أنظمة المنطقة عموما ولبنان وسوريا خصوصاً، يضع القادة العرب (كما وزراء خارجيتهم ممن استنفِروا على عجل إلى اجتماعٍ في القاهرة لبحث أزمة لبنان) أمام تحديات خطيرة يتوجب أن تكون لهم منها مواقف كفيلة بصون الحقوق الوطنية قطرياً وقومياً. إن أبرز هذه التحديات ما يتعلق منها بتصفية قضية فلسطين من خلال تصفية حق اللاجئين بالعودة، وتسوية أزمة لبنان على نحوٍ يبقى معها البلد في أيدي طبقة قابضة موالية للغرب وساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية. فماذا تراهم فاعلين حيالها في مؤتمر القمة العربية المزمع عقده في سوريا مطلعَ الربيع القادم؟ التحديات نفسها تواجه المسؤولين اللبنانيين والسوريين لاسيما قادة المعارضة في لبنان الذين يستشعرون خطورة التحديات المار ذكرها. فماذا يعدّون لمواجهتها من تدابير وتحركات، خصوصاً إذا ما جرى تعطيل التواصل والتفاوض بين الأطراف المتصارعين في الأيام العشرة القادمة؟ بات واضحاً أن الهجوم الأمريكي على دول المنطقة ما زال قائماً. صحيح أن احتمالات توجيه ضربة عسكرية لإيران قد انحسرت أو تبددت، لكن الفعالية السياسية للهجوم ما زالت على أشدها. من هنا تنبع أهمية فهم ما يجري وما يقوم الأطراف المعنيون بإعداده من تدابير وسيناريوهات للمواجهة. فالملوك والرؤساء مدعوون للامتناع، على الأقل، عن اتخاذ تدابير أو اعتماد سياسات تؤدي إلى الإسهام، مباشرةً أو مداورةً، في تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، أو مساعدة أمريكا على تطويق سوريا ومحاولة عزلها وإضعافها، أو السكوت عن نهج إدارة بوش المريب في لبنان الذي يحول دون توصل الأطراف المتصارعين إلى تسوية مقبولة يتفادى بها اللبنانيون أخطار فتنة أهلية. قادة المعارضة مطالَبون أيضاً بتوخي الحذر الشديد. صحيح أن من حقهم، بل من واجبهم، الحؤول دون استئثار قوى 14 آذار بالسلطة وإذعانها لتوجيهات إدارة بوش في هذه الآونة المفصلية، لكن أي تدابير يعتزمون اتخاذها في مواجهة خصومهم السياسيين يجب أن تضع في الحسبان إمكانية استغلالها من طرف القوى المعادية، لاسيما “إسرائيل" وأصدقاءها في إدارة بوش، لدفع لبنان واللبنانيين الى مزيد من الفوضى والتناحر والاضطرابات الأمنية. هل من الغلو الجزم بأن الإنجاز الأكبر في هذه الآونة ولحين انتهاء ولاية بوش هو نجاح اللبنانيين جميعاً في تفادي الفتنة الأهلية؟ شاع وذاع في بعض الأوساط السياسية عن إمكان قيام قوى المعارضة، في معرض التصدي للفريق الحاكم، بإغلاق مطار بيروت الدولي ومعظم المرافئ على الساحل اللبناني، إضافةً إلى قطع عدد من الطرق العامة الحيوية. هذه وصفة جهنمية لقفزةٍ في المجهول نقوم بها طلقاء مختارين. إن إغلاق المطارات والمرافئ والطرق العامة لا يحول دون استئثار قوى 14 آذار بالسلطة بل يقود إلى استئثار قوى المعارضة بتهديم الاقتصاد الوطني ورفع التهمة المساقة ضد الفريق الحاكم في هذا المجال، كما يضعها من حيث لا تريد في مركزٍ حرج تجاه الجيش المكلف حماية المرافق العامة. تقول المعارضة إن الطبقات الشعبية تئن تحت وطأة تدابير وصفقات حكومية تقررت لمصلحة أثرياء وأصحاب نفوذ ومتزعمي مافيات، فهل يعقل أن تتخذ المعارضة تدابير تؤدي الى زيادة الفقراء فقراً والمعيشة ضيقاً والأمل شحوباً؟ قبل أن تفكّر المعارضة بأي تدابير كابحة للحكومة أو معطلة لسياساتها المعادية للمصالح الوطنية العليا وللطبقات الشعبية، عليها أن تبادر أولاً إلى التحوّل معارضةً حقيقية قادرة على أن تكون بديلاً سياسياً من الطبقة السياسية القابضة التي أوصلت لبنان، شعباً ومؤسسات، إلى ما هو فيه وعليه من انقسام وتشرذم وفساد وتسلط وضيق عيش وانسداد أفق. فلتدعُ المعارضة نفسها والقوى الوطنية والديمقراطية الحية إلى مؤتمر وطني لتدارس الأزمة المزمنة وتشخيص الداء الذي يستبطنها كإجراء منطقي وإلزامي قبل وصف الدواء. وفي ضوء الاتفاق على تشخيص الداء يُصار إلى وصف الدواء وهو صوغ برنامج للإصلاح الديمقراطي الشامل بدءاً بالأهم تدرجاً إلى المهم من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، على أن يكون للجبهة الوطنية العريضة المنبثقة من المؤتمر قيادة مركزية، كما تكون لها مُدوّنة ضوابط ومسالك للكفاح ضد القوى الخارجية الطامعة والقوى الداخلية المتسلطة. وفي هذا السياق، لا مانع، بل يقتضي، مباشرة تدابير وتحركات مدنية شعبية سلمية محورها إبراز عدم قدرة الفريق الحاكم على حكم البلاد، وتواطؤ أركانه على المصالح الوطنية العليا، وإهدارهم المال العام، وارتهان بعضهم لقوى ومصالح خارجية، وتجاهلهم القضايا الاجتماعية وفي مقدمها تعاظم الغلاء والضائقة المعيشية والبطالة والهجرة. وغني عن البيان، أن المسيرات والتظاهرات والاعتصامات التي يمكن تنظيمها في مجال التصدي للطبقة السياسية القابضة يجب تركيزها على مصالح أركان هذه الطبقة وحلفائها وليس ضد إدارات الدولة ومؤسساتها ومرافقها العامة التي هي، في التحليل الأخير، مصالح الشعب المحروم من منافعها الاقتصادية والاجتماعية. آن الأوان كي تكون المعارضة، في كل الميادين وبكل المعايير، أقوى وأصدق وأعدل من الموالاة. إن كل أفاعيل التفضيل مطلوبة بقوة في هذه المواجهة التاريخية بامتياز. إذ ذاك يصحّ القول إن القوى الوطنية والاجتماعية الحية تشنّ هجوماً معاكساً قوياً وفاعلاً ضد الهجوم الأمريكي المستمر على دول المنطقة الذي دخل سنته الخامسة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 5/1/2008