العراق بين شط العرب وكركوك د.رنا خالد المبدأ هو عندما تنهار الإرادة الوطنية في الحفاظ على وحدة الوطن وسلامة أراضيه عند ذاك تنهار قدرة الدفاع عن حقوق الأرض وحقوق السيادة. هذا هو ما يحدث الآن في العراق.. فبعد أن استسهلت الأطراف السياسية العراقية عملية التنازل عن الحقوق الوطنية للعراقيين وبعد أن أجادت أداء دور المنفذ لمخططات المحتل والطامع نعتقد أن الوقت قد حان لتواجه الحكومة العراقية الاختيارات الحاسمة بين المفترض من الحاكم القيام به وبين المفترض بالتابع أن يؤديه..
فالحاكم يدافع عن محكوميه ويصون حقوق وكرامة البلد.. أما التابع فيسعى للحفاظ على أهداف ومصالح الجهة التي تديم بقاءه واستمراريته.
العراق اليوم يواجه تحدي البقاء وسط جملة من القضايا التي تجاوزت قضايا الأمن التي يئسنا جميعا من إمكانية حلها انه اليوم يواجه قضايا متعلقة بالوجود والسيادة ومن أهم هذه القضايا التي برزت في الأسابيع الماضية قضية شط العرب وقضية كركوك.
شط العرب هو ذلك المنفذ البحري الوحيد الذي قدمته الطبيعة للعراق والذي يصب فيه نهرا دجلة والفرات وكذلك يخرج العراق إلى الخليج العربي ويدخل جميع القادمين من البحر إليه هذا المنفذ البحري الاستراتيجي بالنسبة للعراق كان السبب الأساس لاندلاع واحدة من أعتى الحروب التي عرفها الشرق الأوسط وهي الحرب العراقية الإيرانية حيث إن شط العرب لا يمثل منفذ العراق البحري فحسب، بل هو جزء من الحدود التي تفصل العراق عن إيران.
وظلت مشكلة شط العرب عالقة بين الطرفين إلى أن وقع الطرفين ما يسمى باتفاقية الجزائر عام 1975 وتم الاتفاق فيها على نقطة خط القعر أو ما يسمى بخط التالوك كحدود بين الدولتين وعلى حرية الملاحة في شط العرب الذي يشكل الحدود الطبيعية بين العراق وإيران.
وبعد انهيار نظام الشاه في إيران وإعلان الجمهورية الإسلامية انهارت اتفاقية الجزائر بعد أن طالبت إيران بتعديلها. ثم أعيد العمل بها بعد عام 1990 باتفاق بين الحكومة الإيرانية والحكومة العراقية آنذاك. الرئيس العراقي جلال الطلباني أعلن أن اتفاقية الجزائر تعتبر ملغاة على اعتبار أن جميع الاتفاقيات التي ابرمها النظام العراقي السابق قد تم إلغاؤها .
إيران من جانبها رفضت تصريحات الطالباني واعتبرتها تمرير لمخطط أميركي يهدف إلى إعاقة مرور السفن الإيرانية عبر شط العرب وأيضا إعادة ترسيم الحدود العراقية الأميركية.
إذن الحكومة العراقية صارت وسيلة من وسائل تمرير المخططات وإثارة الهواجس والعداء بين الأطراف الدولية والإقليمية بغض النظر عن ما إذا كان ذلك يصب في مصلحة العراق أو انه مجرد تنفيذ لأوامر الآخرين.
وحتى لو افترضنا أن الحكومة العراقية فعلا قد وجدت أن إيران تجاوزت حتى على بنود اتفاقية الجزائر وان شط العرب تحول إلى منفذ آمن لتهريب البترول.
فان عملية إنقاذ هذا المنفذ المائي يجب أن تنطلق من منطلق صريح تعلنه الحكومة العراقية دون مواربة وهو أن مصلحة العراق وسلامة حدوده وأراضيه تعد قضية حاسمة وهو ما لم تقم به الحكومة العراقية.
حيث إن منطق إلغاء الاتفاقيات التي عقدتها الحكومة العراقية قد يعني بالضرورة انسحاب هذا الأمر إلى قضايا حدودية أخرى وبالتالي فان منطق المعايير المزدوجة ليس أسلوبا لمطالبة الآخرين باحترام سيادة العراق.
القضية الأخرى هي كركوكس التي لم ينقطع السجال فيها وهي تعكس مدى التشرذم والتمزق الذي تعيشه السياسة والسياسيون في العراق.كركوك تضم خليطا من كل الطوائف الموجودة على ارض العراق منذ مئات السنين فهي تحتوي على مزيج ديموغرافي يضم العرب شيعة وسنة ويضم الأكراد ويضم المسيحيين بكافة طوائفهم وكذلك أقليات أخرى من اليزيديين والصابئة.
وبالتالي فهي ديمغرافيا غير محسومة لجهة معينة ولا تستطيع جهة معينة أن تعلن بأن لها الأغلبية والأولوية فيها. الميزة الأخرى التي تتمتع بها كركوك والتي تجعلها نقطة صراع هي أنها تحتوي على اكبر احتياطي نفطي في العراق بعد البصرة إضافة إلى مزيج متنوع من المعادن الإستراتيجية مثل الحديد والنحاس وأخرى نادرة بكر لم يجر استثمارها.
وهي كذلك تعد مركزا اقتصاديا حيويا ونقطة التقاء لطرق العراق الإستراتيجية. من اجل ذلك أضحت كركوك قضية تتنازعها رغبات أطراف متعددة.
الطرف الأول، وهم الأكراد حيث الجانب الكردي يعتبر أن قضية كركوك لا تنازل عنها حيث انه يطالب بكركوك جزءا لا يتجزأ عن إقليم كردستان وان هذه المحافظة يجب أن تنفصل عن الجسد العراقي وتنضم إلى الجسد الكردي.
الطرف الثاني: في هذه القضية هي تركيا حيث إن كركوك بالنسبة لتركيا تعتبر الحفرة العميقة التي ترى تجنبها، لكونها تحتوي مشكلة سياسية داخلية وخارجية كحزب العمال المعارض والجوار الكردي المتطلع للاستقلال في العراق، ويخشى الجانب التركي من انفصال الأكراد العراقيين، لان أمرا كهذا يشجع الأكراد الأتراك إلى المطالبة بالانفصال على غرار أكراد العراق.
الطرف الثالث: وهي الولاياتالمتحدة بالنسبة إلى الجانب الأميركي فالمسألة تسير على إطارين.
الأول، ينطلق من النقطة الأساس وهي تواجدها في العراق، وهذا الوجود يفرض عليها المداراة كونها تعتمد على الأكراد لإنهاء مهمتها في العراق بسلام.
والثاني، أن أميركا لا تود في الوقت الحالي على الأقل إعلان موقفها المتوافق مع الجانب التركي، وهي تلجأ إلى العمل وفق سياسة المهادنة، واللعب على كل الحبال، لأطول فترة ممكنة، فان نال الأكراد استقلالهم وانفصلوا فهي تظل مكتسبة لقوة صديقة على المدى البعيد، والمقصود بالصداقة إنما صداقة المصالح والإستراتيجيات القريبة منها والبعيدة.
الطرف الرابع: وهي الحكومة العراقية هذا الطرف يحاول إبعاد قضية كركوك إلى أطول فترة ممكنة تجنبا لانهيار الحكومة خاصة مع تهديد الأكراد المستمر بالانسحاب من الحكومة إذا ماتم تأجيل موضوع كركوك.
حيث يصر الأكراد سواء كانوا مسؤولين في الحكومة العراقية ام مسؤولين في حكومة كردستان على الشروع بتنفيذ المادة 140 من الدستور والتي تنص على القيام بإفراغ محافظة كركوك من العرب من خلال إرجاعهم إلى محافظاتهم الأصلية في الوسط أو الجنوب علما انه توجد في كركوك أهم القبائل العربية..
وبالتالي فان ذلك قد يفتح المجال لصراع طويل ومدمر في محافظة كركوك تتقاتل فيه مختلف الفصائل وهو صراع سرعان ما سينتشر إلى سائر العراق.
والعراقيون جميعا يعون أن التعاطي السيئ مع قضية كركوك قد يقود العراق إلى حرب أهليه فعلية... ومع ذلك فان الحكومة العراقية لا تزال منقسمة وضعيفة الموقف فالإطراف الكردية داخل الحكومة تفكر في مصالحها العرقية قبل مصلحة العراق.
وأطراف الإئتلاف في الحكومة تتعامل مع كركوك كأنها كوكب آخر خارج المجرة وبالتالي تتمنى أن يتم انفصال كركوك بأسرع وقت خاصة وهي ذاتها تفكر بالانفصال بإقليم الجنوب..
ولا يعيقها عن ذلك إلا الضغوط والتوجيهات الأميركية التي ترى ضرورة إرجاء أي عملية انفصالية خوفا من صراع يعقد عملية خروج القوات الأميركية أو حفظ الوجود الأميركي خاصة وان الحكومة العراقية والولاياتالمتحدة شرعتا في عملية إعلامية تسوق صورة وهمية عن أن الوضع في العراق سائر نحو الاستقرار.
وبالتالي فان حكومة المالكي تحاول إلقاء قضية كركوك في كنف البرلمان العراقي سبيلا إلى إطالة المسألة إلى أقصى وقت ممكن. .إلا أن احتدام السجال بين تركيا وحكومة إقليم كردستان قد يدفع إلى ضرورة حسم قضية كركوك بصورة نهائية.
وعليه فان العراق بات يئن تحت ضغط مطرقة المصالح الدولية والإقليمية وسندان الحكومة العراقية التي بات كل فصيل فيها يمثل مصالحه الشخصية وبالتالي فان بلدا بأكمله سوف يتفتت بسيول جارفة ليتها ستقف عند حدود العراق وجيرانه لان هذه السيول وما تحمله قد تنساب إلى مختلف أرجاء الشرق الأوسط الذي لم يعد العراق علته الوحيدة فعلله متزايدة ومتفاقمة وحلولها مفقودة. عن صحيفة البيان الاماراتية 3/1/2008