فيما كان باراك اوباما يتأهب لدخول البيت الابيض، سعى بعض مستشاريه الى تصحيح انطباعات خاطئة عن سياسته الشرق اوسطية. من بين هذه الانطباعات موقفه من البرنامج النووي الايراني، اذ حاول منافسه الرئيسي جون ماكين ان يظهر انه متراخ في معارضته لهذا البرنامج. دنيس روس كبير مستشاري اوباما لقضايا الشرق الاوسط أوضح نظرة اوباما حيال هذه المسألة في اطار المقارنة بين موقف ادارة بوش تجاه الحرب على العراق، وموقف اوباما وفريقه الرئاسي تجاه ايران.
قال روس ان ادارة بوش كانت تركز مع احتدام الصراع مع العراق على الخيار العسكري وحده، اما الآن فإن مستشاري اوباما يبحثون خيار الحرب في اطار مقاربة اوسع واشمل للمجابهة مع ايران. بتعبير آخر، اكد روس انه حتى لو رضي اوباما بالتفاوض مع ايران، فإن ذلك لا يعني استبعاد الحرب عليها.
سواء اختارت واشنطن الحرب او السلم مع ايران، فإن ادارة بوش كانت قد افردت للدول العربية مكانا في حملتها ضد برنامج ايران النووي. تلخص الدور العربي، كما حددته ادارة بوش، في اطار ما دعته كوندوليزا رايس «حلف البنائين»، اي الحلف بين «الدول العربية المعتدلة»، بخاصة تلك التي وقعت معاهدات سلام مع اسرائيل من جهة، وبين اسرائيل من جهة ثانية.
الادارة الاميركية والجهات العربية المؤيدة لها سعت الى الترويج لهذا الحلف على اساس انه يحقق ثلاث فوائد للدول العربية. الفائدة الاولى انه يحد من احتمال تحول ايران الى قوة نووية في المنطقة وبالتالي من قدرتها على السيطرة، منفردة او بالتعاون مع اطراف دولية مساندة لها، على منطقة الخليج. الفائدة الثانية انه سوف يكثف الضغوط السياسية والاقتصادية على ايران لتلافي عزلتها الاقليمية. بتصعيد الضغط الاقليمي تزداد المبررات التي تجعل ايران تتراجع عن برنامجها النووي فتخف عندئذ احتمالات الحرب ضدها وما يمكن ان تجره من دمار على دول المنطقة. الفائدة الثالثة ان قيام هذا الحلف سوف يكون، كما اوحى مؤيدو سياسة بوش في المنطقة العربية، مقدمة ضرورية ومحتمة لتسريع عملية التسوية الفلسطينية -الاسرائيلية وقيام دولة فلسطينية مستقلة.
هل حقّق «حلف البنائين» أياً من هذه النتائج الموعودة؟
ابتداء نلاحظ ان هذا الحلف لم يضعف ايران ولم يشكل عنصر ضغط عليها ولم ولن يعرقل مشاريعها النووية. انه يقوي ايران ويعزز مكانتها الاقليمية. بالمقابل فإن انخراط دول واطراف عربية في «حلف البنائين» لا يحصن هذه الدول ولا يوفر لها اية مناعة ضد ايران، نووية كانت ام غير نووية. بالعكس انه يمد معارضيها بمسوغات ومبررات واضحة لتحريض الرأي العام ضدها. ومن شأن هذه التداعيات ان تسهم في تغيير موازين القوى في المنطقة لمصلحة ايران، وليس لمصلحة الدول العربية المشاركة في «حلف البنائين».
اما عن فوائد الحلف من حيث تخفيفه من حدة الصراع على البرنامج النووي الايراني ومن احتمالات توجيه ضربات عسكرية الى ايران، فإنها ليست مؤكدة. بالعكس يمكن القول ان قيام هذا الحلف ساهم في نقل الصراع الى داخل المنطقة وفي دفع ايران الى التصلب والى الاصرار على المضي في برنامجها النووي. بالمقابل قدم الحلف خدمة لمؤيدي التدخل العسكري ضد ايران من المسؤولين الاميركيين والاسرائيليين على اساس انه يوفر مناخا سياسيا ملائما لمثل هذا التدخل.
تبقى الفائدة الثالثة من تكوين هذا الحلف، وقد ثبت بطلانها من ايامه الاولى. ففي صيف عام 2006 دعي فيليب زيليكو، احد مستشاري كوندوليزا رايس، الى التحدث عن اوضاع الشرق الاوسط في ندوة عقدها «معهد واشنطن لدراسات الشرق الاوسط». وفي حديثه قال زيليكو ان التقدم على طريق المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية سوف يخدم الحملة الاميركية - الاسرائيلية ضد ايران، وانه اذا ارادت اسرائيل حماية نفسها من القنبلة النووية الايرانية مستقبلا فإن التجاوب مع الفلسطينيين سوف يساعدها على ضمان هذه الحماية. واثار هذا الحديث ضجة كبرى بين الاسرائيليين وبين مؤيدي اسرائيل الاميركيين اذ اعتبروا انه محاولة «لابتزاز اسرائيل» ولحملها على تقديم تنازلات الى الفلسطينيين مقابل اشتراكها في «حلف البنائين».
تصحيحا للانطباعات التي اثارها كلام زيليكو، قدمت رايس تأكيدات حاسمة الى تسيبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل، على أن ادارة بوش لا تربط لا من قريب ولا من بعيد بين «حلف البنائين» وعملية التسوية في الشرق الاوسط. كذلك اكدت رايس لليفني، ان ادارة بوش لا تعتزم تقديم مكافأة الى العرب الذين ينخرطون في الحلف عن طريق إحراج اسرائيل او حثها على الاستجابة الى المطالب الفلسطينية. كذلك قدم اليوت ابرامز، بصفته مساعدا لمستشار الامن القومي الاميركي، توضيحات مماثلة الى ايهود اولمرت رئيس الحكومة الاسرائيلية. وقد اعتبر الاسرائيليون ان هذه الايضاحات كافية لحسم اي جدل او انطباعات خاطئة عن الغرض من قيام الحلف. اذن ماذا كان الغرض الحقيقي من هذا الحلف، او بالاحرى ما هي النتائج العملية المترتبة على قيامه؟
فضلا عن اضعاف الحكومات العربية وتأجيج التوتر في المنطقة فإن «حلف البنائين» ساهم في إضعاف ما يدعى بعملية السلام بين العرب والاسرائيليين. ان اسرائيل لم تقدم تنازلا الى اية جهة عربية الا مقابل ثمن يسدده العرب اليها. اعادت سيناء الى مصر لقاء توقيع معاهدة كمب ديفيد وتخلي القاهرة عن الخيار العسكري ضد اسرائيل. انسحبت من جنوب لبنان حتى تضمن شيئا من الامن والاطمئنان على حدودها الشمالية. بالمقارنة، اذا اشتركت اطراف عربية نافذة ومعنية بالصراع العربي - الاسرائيلي في «حلف البنائين»، فلماذا يقدم الاسرائيليون التنازلات الى الفلسطينيين او الى السوريين او اللبنانيين او بقية العرب طالما ان بعض الدول العربية تحوّل من عدو لاسرائيل الى «حليف» لها في مواجهة «الخطر الايراني» كما يدعوه الاسرائيليون؟ واي وسيلة يستخدمها العرب للضغط على اسرائيل بعد ان سحبت الولاياتالمتحدة من يدهم كل وسائل الضغط العسكرية والاقتصادية والسياسية على اسرائيل؟
اذ تتملك الدول العربية او بعضها مشاعر القلق والتوجس حيال امتلاك ايران القنبلة الذرية، فبإمكانها التعبير عن هذه المشاعر وحماية مصالحها الاستراتيجية عبر خيار اكثر مطابقة للمصالح العربية والايرانية والانسانية. يتمثل هذا الخيار اولا في التخلي كليا عن مشروع «حلف البنائين» وسائر تجلياته المعلنة وغير المعلنة واعادته الى حضن صانعيه والمروجين له من نجوم ادارة جورج بوش. ويتمثل هذا الخيار ايضا واساسا في احياء المشروع الذي قدمته مصر خلال السبعينات والثمانينات الى الاممالمتحدة بصدد تحويل الشرق الاوسط الى منطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل. لقد تبنت الدول العربية عبر الجامعة العربية هذا المشروع فهو صالح لأن يكون اساسا لتحرك عربي مستقل بقصد تخليص المنطقة من اسلحة الدمار الشامل سواء كانت ايرانية او اسرائيلية او عربية.
في سياق تفكيك اسلحة الدمار الشامل وسحبها من الشرق الاوسط، فإن البرنامج النووي الايراني قد يشكل وسيلة ضغط مناسبة على اسرائيل التي تملك اكبر كمية من اسلحة الدمار الشامل، هذا فضلا عن وسائل نقلها وإسقاطها جوا وبحرا في الشرق الاوسط. ولقد المح منوشهر متقي وزير خارجية ايران الى شيء من هذا القبيل عندما كتب في صحيفة «الغارديان» البريطانية في مطلع شهر شباط (فبراير) الماضي ان بلاده على استعداد للالتزام بمشروع «شرق اوسط خال من اسلحة الدمار الشامل» لكن مقابل التزام جميع الاطراف في المنطقة وبخاصة اسرائيل بهذا المبدأ. هذا الاعلان قد لا يعبر بدقة عن موقف طهران تجاه هذه المسألة وقد لا يشكل دلالة حاسمة على انها مستعدة للتراجع عن برنامجها النووي. الا انه يدل على ان فكرة تخليص المنطقة من خطر اسلحة الدمار الشامل هي فكرة تحظى بقبول الرأي العام الايراني فضلا عن العربي، وان احياء هذه الفكرة يشكل مدخلا سليما للتعامل مع خطر انتشار اسلحة الدمار الشامل فيها.
ان تحقيق المشروع، بل وحتى تحريكه من جديد يحتاج الى جهود كبيرة. وهناك ولا شك عقبات كثيرة تعرقل اعتماده مجددا والترويج له والدعوة الى الأخذ به. ولا ريب ان موقف الادارة الاميركية واسرائيل اللتين تعارضان اي مشروع ينتقد امتلاك اسرائيل لأسلحة الدمار الشامل هو عقبة رئيسية من هذه العقبات. ولكن محاولة تذليل هذه العقبة تبقى اقل صعوبة وخطورة على اوضاع المنطقة وامنها واستقرارها من انخراط الدول العربية في «حلف البنائين» الذي يمنح اسرائيل غطاء لاستمرارها في احتلال الاراضي العربية، ويضع هذه الدول على خط المواجهة الحامية مع ايران. فهل يذهب هذا الحلف العبثي مع ادارة بوش، ام يبقى عنواناً للعجز العربي وللتسلط الاميركي على المقدرات العربية؟