روسيا «البوتينية» ومهام استكمال ممانعتها الجديدة ماجد الشيخ ستون عاما مضت حتى الآن على ما أسمي الحرب الباردة بين الشرق والغرب، تخللها العديد من مسببات «التحارب» التنافسي بين أنظمة مختلفة، حتكمت لأيديولوجياتها وأفكارها المسبقة واحدتها عن الأخرى، قبل أن يجري اختبار ومعرفة تلك الأيديولوجيات والأفكار من جانب كل الأطراف التي دخلت أو أدخلت بازار تلك «الحرب» التي وإن بقيت باردة، إلا أن صراعها «التحاربي» أو التنافسي لم يخل من سخونة سباق التسلح وتطوير أنظمة تسليحية، على أن حاجز الردع وتوازن الرعب بقيا الحائل الفعلي دون الدخول في حرب أو حروب فعلية بين الأطراف الرئيسة، رغم الحروب الصغيرة والصراعات الدامية التي خاضتها تلك الأطراف، ولكن بأجساد أدوات ومناصرين لها في الكثير من بلدان ومناطق العالم. ولئن لم يجر الإقرار الآن بتبلور «حرب باردة» جديدة، فلأن عدم جاهزية الأدوات على ما كان عليه الحال، حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بات يعد بصراعات تنافسية مباشرة بين أقطاب النظام الدولي «الجديد»، أو على الأقل بين قطبيه الرئيسيين: الولاياتالمتحدة والإتحاد الروسي، حيث يبدو أن واشنطن لم تدرك بعد وحتى اللحظة معنى ودلالات التحول داخل روسيا، وما انطوى وينطوي عليه استيقاظها ونهوضها الجديد الراهن، كنتاج رئيس لتحسن الوضع الاقتصادي داخليا وتدفقات الاستثمار المالي وارتفاع أسعار النفط والغاز. ورغم توافر المنافسة الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية، إلا أن الاعتبارات التي تحدد طبيعة «الحرب الباردة الجديدة» ليست متوافرة بالكامل، وإن كانت بوادر منها قد تؤدي الى الاندفاع نحو سباق تسلح جديد، لا سيما ونحن نعيش في عالم وفي ظل نظام دولي جديد، أو هو في سبيله للتكون؛ محوره الصراع على المصالح والنفوذ والنفط والأسواق والسلع، وذلك في محاولة جادة لبناء عالم متعدد الأقطاب، تمارس روسيا في سبيل بلوغه مجموعة هائلة من الضغوط تجاه الولاياتالمتحدة وأوروبا أيضا، بهدف الإعتراف بالمصالح القومية الروسية، ونزع فتيل التهديدات والتوترات التي قد تحيط بخطط الولاياتالمتحدة في سعيها الحثيث للبقاء على استفرادها بقيادة النظام الدولي. وفي هذا السياق وانسجاما مع تلك ألأهداف الروسية، كان الرئيس بوتين في 18 تشرين الاول الماضي، أبدى ثقته بأن سيد الكرملين المقبل سيحافظ على النهج الحالي للحكم، ويواصل برامج التنمية والإصلاح، مشددا على أن تعزيز القدرات العسكرية سيستمر لمواجهة ما أسماه «أفكار تراود رؤوسا ساخنة في الغرب، تحاول الاستيلاء على الاحتياطات النفطية الروسية»، وذلك في إشارة مبطنة إلى الولاياتالمتحدة التي شن هجوما عنيفا على سياستها في العراق. وفي مواجهة إعلان الأمين العام للحلف الأطلسي أن قمته المقررة العام المقبل (2008) ستتخذ قرارات في شأن انضمام دول مجاورة لروسيا، ومنها من كانت ضمن الإتحاد السوفياتي السابق إلى الحلف، اعتبرت روسيا في تحذير لافت أن خطط توسيعه شرقا؛ لا يرتبط بخطط تحديثه أو بهدف تعزيز أمن أوروبا، بل استفزازا لأمنها الاستراتيجي، ما ينذر بظهور خطوط فصل جديدة في أوروبا. وقد تزامن هذا التحذير مع إعلان موسكو إعادة تسيير أساطيل في البحار لحماية سفنها، بما يتضمن إجراء مناورات في المياه الدافئة تشمل التوقف في مرفأ طرطوس، ما يعني أن هدف المناورات هو تأمين مواكبة بحرية مستقبلا لناقلات النفط الروسية. وبذلك تكون موسكو قد خطت خطوة جديدة نحو استعادة تقاليد «الحرب الباردة»، لا سيما وهي تعلن وجود أسطولها في البحار الدولية، ليشمل ذلك تنفيذ 11 وحدة بحرية روسية جولة مناورات في شمال شرقي المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، خلال الفترة الممتدة من شهر كانون الاول الحالي إلى شباط 2008 المقبل. تجيء هذه التطورات في أعقاب دخول قرار انسحاب روسيا من معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا؛ مرحلة التنفيذ الفعلي مع توقيع الرئيس بوتين في الثلاثين من تشرين الثاني الماضي على قانون خاص بذلك، وقد بدأ تطبيق مفعول القانون في 12 كانون الاول الحالي، ما يعني أن روسيا ستمتنع عن تزويد حلف الأطلسي بمعلومات حول تحركات قواتها التقليدية، ولن تستقبل مفتشين عسكريين في منشآتها، إضافة إلى إطلاق يدهم لنشر قواتهم التقليدية؛ في مناطق كانت محظورة عليهم بموجب المعاهدة في السابق؛ مثل إقليم كاليننغراد. وبصدور هذا القانون وبدء تطبيقه، تكون روسيا قد تخلصت من قيود على إنتاج أنواع من الأسلحة التقليدية، علما أن المعاهدة كانت تلزم حلفي وارسو والأطلسي بتحديد وجود قواتهما التقليدية في أوروبا، لكن وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي واصلت موسكو التزام المعاهدة، فيما لم تصادق دول الحلف الغربي على نسختها المعدلة، ما دفع الرئيس بوتين إلى الإعلان في حزيران الماضي عن عزم موسكو الانسحاب من المعاهدة، لأنه «لا يمكن أن نواصل الإلتزام بينما ينشر الآخرون قواتهم على حدودنا». ومعاهدة القوات التقليدية في أوروبا وقعت في 19 تشرين الثاني 1990 في باريس، لكن دول حلف الناتو ترفض المصادقة على الصيغة الجديدة طالما لم تسحب روسيا قواتها من جورجيا ومن مولدافيا خصوصا، عملا بالالتزامات التي قطعتها موسكو لاحقا، ومن هنا جاء إرجاء موسكو لتطبيق هذه المعاهدة، وأعلنت دول الناتو ال 26 أنها لن ترد على قرار موسكو وستواصل، أقله حتى إشعار آخر، تطبيق اتفاق نزع الأسلحة التقليدية المنتشرة من الأطلسي إلى الأورال. ولا يخفي الروس ارتباط قرارهم هذا بنوايا الولاياتالمتحدة نشر درع صاروخية في أوروبا الشرقية، كما ويفتح قرار الانسحاب من معاهدة الأسلحة التقليدية الباب أمام احتمالات إعادة النظر في المشاركة الروسية في عدد من الاتفاقات، علما أن موسكو كانت لوحت مؤخرا باحتمال انسحابها من معاهدة الحد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، كما كانت قد طالبت واشنطن ببدء حوار للتوصل إلى صيغة معدلة لمعاهدة الأسلحة النووية الإستراتيجية. من هنا كان لا بد لاجتماعات مجلس (روسيا الحلف الأطلسي) الذي انعقد في بروكسيل مؤخرا من أن تنتهي إلى الفشل والاتهامات المتبادلة، حيث اتهمت موسكوالولاياتالمتحدة بوضع عراقيل أمام اعتماد خطة التعاون بين روسيا وحلف الأطلسي للعام ,2008 وأشارت إلى «خطوات تعمق المأزق الحالي»، فيما اعتبر الحلف الغربي أن علاقات الجانبين «وصلت إلى مرحلة حرجة». أبرز النقاط الخلافية الأساسية بين الطرفين، بدأت على خلفية الحديث عن الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، ومعاهدة الحد من الأسلحة التقليدية، وإعلان موسكو الانسحاب منها، وصولا إلى وضع إقليم كوسوفو الذي يشكل استقلاله عن صربيا سابقة؛ تدعم طموح جمهوريات معلنة من جانب واحد في الفضاء السوفياتي سابقا للاستقلال، فيما أعربت موسكو عن استيائها بسبب إصرار واشنطن على مواصلة تنفيذ خطة نشر الدرع الصاروخية في شكل منفرد، على رغم الإعتراضات الروسية. حيث أعلن ناطق باسم البيت الأبيض في نهاية اجتماع بروكسيل أن واشنطن ستواصل العمل على خطتها رغم تقرير الاستخبارات الأميركية الأخير حول إيران، وذلك بزعم أن الهدف المعلن لنشر الدرع الصاروخية هو التصدي للخطر الصاروخي الإيراني في أوروبا، إلا أن موسكو ذهبت إلى أبعد من ذلك في الرد على هذه المزاعم حد القول «إن هدف الدرع الصاروخية إنما ينطوي على هدف رئيس يتمثل في تطويق روسيا». بل إن روسيا باتت تحذر من الآن من أن استخدام الدرع الصاروخية الأميركية على حدودها قد يطلق ردا تلقائيا من أنظمتها الصاروخية العابرة للقارات. وهذا ما دفع صحيفة «كوميرسانت» الروسية في تعقيبها على نتائج اجتماعات الحلف إلى القول أن اجتماع روسيا الحلف الاطلسي أنهى مرحلة من التنسيق استمر فيها الجانبان في وصف العلاقات بينهما بأنها «علاقات تحالف» على رغم الخلافات بينهما، إلا أن مثل هذه العلاقات حل محلها أثناء ولاية الرئيس بوتين الثانية «صدام بين المصالح وصراع ضار في مختلف المجالات يشبه الحرب الباردة الجديدة». وهكذا وإن لم تكن روسيا قادرة؛ أو بصدد تمويل قوة عسكرية عظمى عبر العالم، إلا أن الرسائل الروسية الواضحة الموجهة للولايات المتحدة ولحلف الأطلسي ولشركائها الأوروبيين، تعبر عن كبرياء روسي قد يتجاوز في سلوكه المتتابع مجرد استعراض عضلات، ليتكشف عن سعي روسي حثيث للحد من التدفق الأميركي إلى آسيا والاقتراب من حدود الأمن القومي الروسي. وفي هذا السبيل تؤكد موسكو عبر مناوراتها العسكرية مع الصين ومع دول منظمة شنغهاي. وإرسال القاذفات الإستراتيجية إلى المحيط الهادئ، والتواجد الدائم في البحر المتوسط، وكما كانت أكدت عبر قمة الدول الخمس المشاطئة لبحر قزوين في منتصف اكتوبر الماضي .. كل ذلك يؤكد أن روسيا ليست في صدد الدفع نحو الصدام مع الولاياتالمتحدة، بقدر ما تريد الدفع بالآخرين للإعتراف بمصالحها كدولة كبرى، وكونها نواة قطب عالمي جديد؛ يحاول إقامة توازن مع الحلف الأطلسي عبر ما يمكن اعتباره البديل الراهن لحلف وارسو السابق. هل هذا تحديدا ما يدفع الرئيس بوتين للإصرار على البقاء في السلطة؛ لتحقيق هذه الأهداف التي يعتقد أنها لن تتحقق إلا بوجوده هو؛ سواء على رأس السلطة أو كفاعل رئيس في صنع قرارات الرئيس القادم إلى الكرملين في ربيع العام المقبل، وذلك على قاعدة أن شعبيته أعادت أو هي في سبيلها لإعادة روسيا إلى بريق «عزتها السوفياتية» التي بددها نظام يلتسين؟؟. عن صحيفة السفير اللبنانية 31/12/2007