ماذا بقي من تركة ياسر عرفات؟ خيراللَّه خيراللَّه تمرّ هذه الأيام الذكرى السنوية الرابعة لغياب ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني والرجل الذي وضع القضية الفلسطينية على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. ماذا بقي من تركة ياسر عرفات؟ إنه السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في وقت تمرّ القضية الفلسطينية في مرحلة في غاية الدقة. يتحمل ياسر عرفات من دون شك جزءا من مسؤولية ما وصلت إليه القضية عندما اتخذ في السنوات الأخيرة من حياته سلسلة من القرارات التي لا تتلاءم بأي شكل مع المسيرة التي اعتمدها، خصوصا منذ العام 1988 تاريخ الاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية من الجزائر استنادا إلى القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن إثر حرب العام 1967. إنه القرار الذي أسس لعملية سلمية قائمة على مبدأ الأرض في مقابل السلام وعلى التفاوض من أجل تحقيق تسوية تستند إلى هذا المبدأ. يدفع الفلسطينيون حاليا ثمن القرارات المتخذة في مرحلة لم تعد فيها إسرائيل متحمسة لتسوية ابتداء من اليوم الذي أغتيل فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي أسحق رابين في نوفمبر من العام 1995، أي بعد سنتين من التوصل إلى اتفاق أوسلو. اغتيل رابين على يد متطرف إسرائيلي لا يؤمن بالسلام. المؤسف أن أطرافا عدة في المنطقة شكلت حلفا غير مقدس أدى في نهاية المطاف إلى الوضع الراهن. ضمّ الحلف أطرافا عربية وغير عربية إضافة بالطبع إلى أطراف إسرائيلية تعتبر أن قاتل رابين كان على حقّ وأن لا مكان في الشرق الأوسط سوى لمتطرفين من قماشته لا يؤمنون سوى بلغة العنف وإلغاء الآخر. تكمن مشكلة ياسر عرفات في أنه أستخفّ بالذين يمارسون لعبة العنف، بغض النظر عما إذا كانوا فلسطينيين أو غير فلسطينيين. ظن أن في استطاعته الاستفادة من هذه اللعبة إلى ما لا نهاية، إلى أن ذهب ضحيتها. بكلام أوضح، اعتقد الزعيم الفلسطيني الراحل في مرحلة ما أنه قادر على توظيف العمليات الانتحارية التي نفّذتها "حماس" في العام 1996 بهدف ايصال بنيامين نتانياهو إلى موقع رئيس الوزراء الإسرائيلي. نجحت "حماس" في ذلك، هي التي راهنت منذ البداية على ضرب المسيرة السلمية وعلى تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني بما يخدم أيديولوجيتها المتزمتة بدل التخلص من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. كان في أستطاعة ياسر عرفات وضع حدّ لتصرفات "حماس" في العام 1996، لكنه لم يفعل ذلك من منطلق أن ذلك سيساعده على الظهور في مظهر الزعيم المعتدل الذي يحتاج إليه العالم واسرائيل نفسها من أجل التوقيع على التسوية. كان "أبو عمار" يظن أن القلم الذي يحمله والذي سيستخدمه لوضع توقيعه على التسوية حاجة دولية وإقليمية وإسرائيلية، إلى أن جاء اليوم الذي تجاوزته الأحداث بعدما تبين أن قاتل رابين هو الأقوى وأن العالم تغيّر جذريا، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. لم يذهب ياسر عرفات ضحية حساباته الخاطئة أحيانا فحسب، بل ذهب أيضا ضحية إرهابي اسمه أسامة بن لادن دفع جورج بوش الابن إلى شن حربه العالمية على الإرهاب التي كانت القضية الفلسطينية من ضحاياها. لم يكن السماح ل "حماس" بشن عملياتها الانتحارية، في وقت كان في الامكان وضع حدّ لها، الخطأ الوحيد الذي ارتكبه ياسر عرفات في السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات. بل جاء القرار الذي اتخذه أواخر العام 2000 بعد فشل قمة كامب ديفيد مع الرئيس كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك والقاضي بالتغاضي عن عسكرة الانتفاضة بمثابة استسلام لنهج اعتمدته "حماس" التي كانت تعد منذ تلك الفترة لليوم الذي ستسيطر فيه على قطاع غزة تمهيدا للسيطرة على الضفة الغربية في مرحلة لاحقة. في السنة 2008، يبدو الفلسطينيون في غياب ياسر عرفات من دون قواسم مشتركة. لم يعد هناك ما يجمع بين "فتح" و "حماس"، هذا في حال لا يزال في الامكان الحديث عن "فتح" التي عرفناها. لم تكن إسرائيل وحدها التي أستغلت نقاط الضعف لدى ياسر عرفات، وهي نقاط مكنتها من وضعه في الإقامة الجبرية في مقره في رام اللَّه منذ أواخر العام 2001 وحتى تاريخ قيامه برحلة أخيرة ألى مستشفى فرنسي في أكتوبر من العام 2004 ووفاته في الحادي عشر من نوفمبر. كان هناك سعي مستمر لدى "حماس" إلى وراثة الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، الرجل الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى الأممالمتحدة وراح يدق أبواب القدس بقوة. انه الرجل الذي أعاد للفلسطينيين أرضا للمرة الأولى في التاريخ الحديث لهذا الشعب الذي عانى من ظلم ليس بعده ظلم. ماذا بقي من تركة ياسر عرفات؟ بقي كيانان مستقل كل منهما عن الآخر، أحدهما في قطاع غزة والآخر على جزء من الضفة الغربية. وبقي فتات ثمانين سنة من النضال بلورت شخصية الشعب الفلسطيني. وبقي "الجدار الأمني" العنصري الذي لم يعد هناك من يتحدث عنه. والأخطر من ذلك كله، أن القضية لم تعد قضية حقوق الشعب الفلسطيني ودولته المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية، بل صارت قضية مصالحة بين "فتح" و"حماس". مصالحة من أجل ماذا ما دامت لا توجد قواسم مشتركة من أي نوع كان بين التنظيمين؟ كل ما هو موجود رغبة لدى "حماس" في وراثة ياسر عرفات... وراثة أخطائه من دون الأخذ بأي من حسناته! عن صحيفة الراية القطرية 11/11/2008