سيكون للبنان رئيس لكن متى؟ مسعود ضاهر عندما يسأل أحد السياسيين أو الدبلوماسيين عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان، يجيب: “لا بد أن تحصل هذه الانتخابات ولو بعد حين". وبعد أن أسف البطريرك الماروني، مار نصر الله صفير، للفراغ في سدة الرئاسة، دعا في رسالة الميلاد إلى “الصلاة ليكون لنا رئيس يصرف الأمور ويدبرها، فتنطلق الدولة. فما من جماعة يمكن أن تعيش من دون دولة، وما من قبيلة إلا ويكون لها رئيس يصرف أمورها ويديرها". لكن انتخابات الرئاسة تأجلت كثيراً، والأسباب كامنة في النزاعات الداخلية التي تستقوي بتحالفات إقليمية ودولية. ولم تجد تصريحات كل من جورج بوش وساركوزي التصعيدية نفعاً في إلزام المعارضة بانتخاب الرئيس العتيد وفق الأجندة الخارجية بل أثبتت هشاشة التأثير الخارجي للرئيس بوش في نهاية عهده، وبعد فشل سياسته في العراق. وميزان القوى الداخلي متقارب جداً بحيث يحمل انفجار الأزمة اللبنانية إلى تدمير الجميع فلا يخرج منها منتصر بل تقود هزيمة جميع أطراف الصراع في لبنان إلى زوال الكيان اللبناني عبر فوضى عارمة يصعب معها إعادة تشكيل الوطن والدولة والمؤسسات. ومع أن التدخل الخارجي في الشؤون اللبنانية شبه يومي فإن المسألة تحتاج أولاً إلى حلول توافقية داخلية. والحديث عن “ حكومة غير وطنية وغير ميثاقية" تريد ربط لبنان بسياسة الأمريكيين والأوروبيين الشرق أوسطية مقابل “معارضة وطنية تريد تحرير لبنان من التدخلات الخارجية" كلام ديماغوجي بالكامل. فالأزمة اللبنانية ليست داخلية فحسب أو مستقلة بذاتها، بل تخضع مباشرة لتجاذبات إقليمية، سورية وإيرانية تحديداً. دليلنا على ذلك الاتصالات العلنية المستمرة بين باريس وكل من دمشق وطهران من جهة، وغير المعلنة بينهما وبين واشنطن من جهة أخرى. ويتمتع التحالف السوري الإيراني بموقع قوي من خلال حلفائه في لبنان بحيث لا تستطيع واشنطن أو باريس كسب معركة ضد هذا التحالف على الساحة اللبنانية. مما فرض على جميع القوى المهتمة بمستقبل لبنان أن تبحث عن توافق داخلي وإقليمي ودولي في آن واحد. وتبدأ مسيرة التوافق بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد لا تنتهي بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوزيع الحقائب في داخلها، والتوافق على بيانها الوزاري، وتعيين قائد جديد للجيش اللبناني يخلف العماد سليمان بعد توليه سدة الرئاسة، والتوافق على الخطوط العريضة لقانون انتخاب عصري يشكل منطلقاً عقلانياً لإعادة تشكيل البرلمان اللبناني لعام 2009. ولعل أحد أبرز أسباب استمرار الأزمة اللبنانية، أن قادة لبنان لا يملون عن مديح الشفافية والديمقراطية ويعلنون تمسكهم الدائم بنظام القيم والأخلاق، والولاء للوطن، في حين أنهم يمارسون عكس تلك الشعارات تماماً. فهم أسرى التوازنات الطائفية والمذهبية، ويتمسكون بمبدأ تقاسم الإدارة والنفوذ تحت ستار الحفاظ على العيش المشترك، وتطبيق بنود اتفاق الطوائف، وإقامة التوازن بين الطوائف. لكن زعماء الطوائف يتمسكون بتفسير غير عقلاني لتلك الشعارات المذهبية، ما أدى إلى تعطيل الحياة السياسية، وشل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فعجز مجلس النواب عن الالتئام، وأصاب الشلل مجلس الوزراء ومؤسسات الدولة، وأصيب معرض الكتاب في بيروت لهذا العام بخسائر كبيرة. وتأثرت جميع قطاعات الإنتاج والثقافة والخدمات في لبنان بأجواء التهويل والتهديد، والتمادي المستمر في الفراغ الرئاسي لأكثر من شهر دون ما يؤكد بروز انفراج قريب أو جلوس أفرقاء النزاع إلى طاولة المفاوضات. مع ذلك، يدرك زعماء الطوائف والميليشيات في لبنان أن التسوية حتمية لأنها كانت في أساس نشوء الكيان اللبناني منذ ولادته عام 1920 وترسخت مع الميثاق الوطني واتفاق الطائف. وأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يشكل صمام الأمان لعمل جميع المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية في لبنان. ومن أولى واجباته الحفاظ على الدستور، وصيغة العيش المشترك، وتفعيل النظام الديمقراطي على أساس توافقي لا مكان فيها لغلبة طائفة على أخرى طالما أن جميع الطوائف أقليات في نظام تعددي يضم 18 طائفة. وهو مطالب بفتح حوار بناء مع سوريا من موقع الندية، وعلى أساس قاعدة معروفة: “لا يحكم لبنان من سوريا، لكنه لا يحكم ضد سوريا". إن لبنان يشهد صراعاً مريراً على السلطة، وهو صراع مشروع شرط أن يحترم زعماء الطوائف الصيغة اللبنانية وميثاقها ودستورها، بما يضمن مصلحة لبنان العليا. وعلى الجميع تحمل مسؤولياتهم بعد أن أوصلوا لبنان إلى فراغ في رئاسة الجمهورية ينذر بتفكيك جميع مؤسسات الدولة. وعليهم التنبه إلى التغيير الديمغرافي الذي أحدث خللاً حاداً في التوازنات الطائفية للمقيمين على أرض لبنان بسبب ارتفاع معدلات الأعمار، وتزايد تلوث البيئة اللبنانية، والاستقطاب السياسي الحاد على أسس مذهبية. مما يستوجب قيام دولة توافقية، عادلة وقوية ومركزية. ختاماً، إن حالة الانتظار التي تعيشها القوى السياسية في لبنان مؤشر على عجزها عن حماية الوطن. فزعماؤها خائفون على حياتهم، وقد حصنوا أنفسهم في شقق فاخرة أو فنادق من الدرجة الأولى، وتركوا الجماهير الشعبية التي انتخبتهم تعاني الفقر، والجوع، والمرض، والقلق على المستقبل. ويبدو أن زعماء لبنان تآلفوا مع ثقافة الفراغ بعد أن خبروا هواجس الموت. لكن اللبنانين ما زالوا متمسكين بثقافة الحياة، وبمبادئ الحرية والديمقراطية. وهم على ثقة بأن الأفق ليس مسدوداً أمام وطنهم لأن له موقعاً متقدماً في النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، وبإجماع عربي ودولي. وقادة لبنان مطالبون بالإسراع في انتخاب رئيس جديد للبلاد يعمل على إنقاذ الوطن الموحد من ركام المذاهب المتناحرة. وعليهم توخي الحذر من إفشال الدور التوحيدي للمؤسسة العسكرية لأنه يقود حتماً إلى تفكيك لبنان عبر صراع جنوني على السلطة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 30/12/2007