عادت البصرة بعد خرابها.. ولكن لمن عادت؟ محمد خرّوب في عملية التفاف ومراوغة بريطانية واضحة سلّمت القوات البريطانية المحتلة صلاحياتها الأمنية في عاصمة الجنوب العراقي (مدينة البصرة) إلى القوات الأمنية العراقية في آخر عملية تسليم للمدن الكبرى في محافظة الجنوب بعد ان تم تسليم ثلاث محافظات سابقة هي ميسان وذي قار والمثنى. الأمر في ظاهره يبدو طبيعياً وكأنه انسجام بين موقف رئيس الحكومة البريطانية الجديد غوردون براون (كان في البصرة قبل أسبوع وزارها كما غادرها سراً) الذي أعلن عن سحب نصف القوات البريطانية الموجودة في العراق منذ الغزو الأميركي البريطاني في العام 2003 والتي وصل عددها 5000 جندي (يعتزم براون إبقاء 2500 جندي فقط). لكن الأمور ليست كذلك بالتأكيد لأن براون الذي يريد أن ينأى بنفسه عن المغامرة الفاشلة التي قام بها سلفه توني بلير في تبعية واضحة لجورج بوش والإيحاء للناخب البريطاني انه في سبيله لاخراج قواته من المستنقع العراقي، ثم يسلم البصرة التي الحق بها البريطانيون الخراب والدمار وارجعوها إلى ما كانت عليه قبل ثمانين عاماً عندما كانوا يحتلونها وقبل أن تنطلق ثورة العشرين المجيدة. نقول لم يسلمها إلى قوات حكومة عراقية مركزية وديمقراطية وتمثل أطياف الشعب العراقي كافة، بل هو يعلم كما يعلم أصحاب القرار في قيادة قوات الحلفاء (إقرأ القوات الأميركية) أن لا حكومة عراقية موجودة بهذه المواصفات في بغداد وأن لا وجود لها أصلاً في البصرة وان مدينة النخيل والنفط والشعراء والأهوار هي في قبضة الميليشيات، وأن خروجهم من البصرة انما يعني فتح الطريق على حرب ضروس بين الميليشيات المتصارعة والتي هي في معظمها شيعية تتقدم قوات بدر الذراع العسكري للمجلس الاسلامي الاعلى العراقي بزعامة عبدالعزيز الحكيم وجيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر وحزب الفضيلة. الذي انشق عن الائتلاف الشيعي الرباعي (الحكيم، المالكي، الصدر والفضيلة)، بعد ان كانوا تقدموا لانتخابات العام الماضي بقائمة موحدة أمنت لهم اغلبية مريحة رسمت ملامح عراق ما بعد اقرار الدستور (الدائم)، وكشفت عن عمق التحالف الشيعي الكردي، الذي يعني في جملة ما يعني، تمرير الصفقات الثنائية الخاصة بمهفوم الفيدرالية. حيث يؤيد الحكيم والمالكي تحديداً، وجود اقليم كردستان بما في ذلك المادة (140) من الدستور الخاص بمدينة كركوك، والتي يجب ان يتم الاستفتاء حولها قبل نهاية هذا العام (لا يبدو ان مثل هذا الامر سيحدث بعد ان تم استهلاك الوقت وبعد ان طرأت تغييرات ملموسة على المعادلات التي كانت قائمة عند اقرار الدستور الدائم، ما يعني ان الامور قد تأخذ ابعاداً اكثر خطورة مما يبدو).. في مقابل دعم المالكي والحكيم لتطبيق المادة (140) فانهما يأملان ان يجدا دعماً من التحالف الكردستاني لاقامة كونفدرالية في الجنوب، بما هي في النهاية واياً كانت التبريرات كونفدرالية تنهض على أسس طائفية ومذهبية، ما يعني في النهاية القضاء على صيغة العراق الموحد، التي دامت ثمانية عقود والتي نجحت في المحافظة على حماية العراق من التقسيم. رغم ما ألحقه حكّام العراق المتعاقبون من اضرار ومظالم بل وجرائم ضد كثير من شرائح الشعب العراقي الطائفية والمذهبية، وخصوصاً العرقية، حتى لاقى الاكراد اسوأ انواع الالغاء والتهميش والقتل والاقصاء والحرمان من ابسط حقوق الانسان، واحترام خصوصيتهم الثقافية فيما كان القمع السياسي يطال الجميع بلا استثناء. ان تعود البصرة الى العراقيين، لا يعني انها تعود لسلطة مركزية تحكم بالقانون وتلتزم حقوق الانسان والتعددية وتطبق معايير المساواة والعدالة، بعيداً عن التصنيف الطائفي او المحاصصة. ولأن البصرة تعود ''مقسّمة'' الى الميليشيات وفق معادلة قيل ان ايران قد ''توسطت'' للقبول بها، فإننا نكون امام حال من الفانتازيا السياسية الاقرب الى الفوضى ليس فقط مما تحمله الوساطة الايرانية من دلالات وتأكيد على ما بات معروفاً كحقيقة يصعب دحضها وهو ان ايران هي القوة الاولى في الجنوب العراقي نفوذا وحضورا ودوراً وتأثيراً. وهذا لا يحسب ضد ايران لأن نظرية ملء الفراغ معروفة في علم الطبيعة كما في علم السياسة وأي فراغ يستدعي من يملأه وهكذا فعلت ايران وهي لا تلام.. بل يجب ان يوجه اللوم الى العراقيين اولاً ثم الى العرب ثانيا (هذا اذا ما افترضنا انهم معنيون بملء الفراغ او مهتمون بالحال العراقية بعد ان استقالوا من مهمتهم القومية والوطنية وباتوا اسرى هاجس المحافظة على انظمتهم).. نقول ليس فقط دلالات الوساطة الايرانية وانما ايضا غياب ما يسمى حكومة بغداد المركزية بقيادة نوري المالكي الذي يملأ الدنيا ضجيجاً وصراخاً وعنتريات، ويتحدث عن السيادة والوطنية والقبضة الحديدية ويجرد الحملات الأمنية لتطهير احياء بغداد من سكانها السنّة، ويقيم الجدران العازلة بين احيائها ويهدد جبهة التوافق وحركة الوفاق بالويل والثبور وعظائم الامور اذا لم يعودوا الى حكومته بلا شرط او قيد.. فشلت حكومة المالكي في اختبارها الاخير ولم تجد كل محاولاتها للايحاء بامتلاكها القرار عندما وقع نوري المالكي على معاهدة استراتيجية بعيدة المدى قيل انها لتنظيم الوجود العسكري الاميركي في العراق، وهي في واقع الحال ''قوننة'' الاحتلال الاميركي ووضع العراقيين في مواجهة بعضهم البعض، فيما المحتلون يقبعون في قواعدهم الضخمة والمحصنة ويؤمنون النفوذ وامدادات النفط والعقود الضخمة ومصالح الشركات الاميركية.. الحال لن يختلف مع البريطانيين، والمعاهدة المماثلة ستكون في القريب الوشيك، اذ لا يعقل ان يغادر البريطانيون العراق بدون جزء من كعكة بلاد الرافدين ''الدسمة''.. خرج البريطانيون من البصرة بعد خرابها وتستلمها الميليشيات الشيعية الثلاث الرئيسية ولا يعقل ان تستمر مثل هذه الصيغة فلا بد من الحسم ولا بد لفصيل واحد ان يبسط سيطرته على عاصمة الجنوب العراقي.. استعدوا للاسوأ فالمجازر قادمة.. عن صحيفة الرأي الاردنية 17/12/2007