إدارة الفراغ الرئاسي اللبناني د. غسان العزي لم تنفذ الأكثرية اللبنانية تهديدها بانتخاب رئيس للجمهورية بأغلبية النصف زائداً واحداً إذا انصرمت المهلة الدستورية من دون توافق. ولم ينفذ الرئيس لحود تهديداته السابقة باللجوء إلى عمل ما- لم يفصح عنه- في اليوم الأخير من ولايته في حال فشل التوافق. لقد احتار المراقبون والخبراء الدستوريون في محاولاتهم توقع ما قد يفعله الرئيس المنتهية ولايته. منهم من خشي تشكيله لحكومة ثانية تقود البلاد بعده بديلا عن الحكومة الحالية التي، كما المعارضة، يطعن في شرعيتها ودستوريتها وميثاقيتها، ومنهم من توقع ان يبقى الرئيس في القصر ولو انتهت ولايته بذريعة منع الفراغ، ومنهم من خشي اعلانه لحالة الطوارئ وتعليق العمل بالدستور. لكن ما فعله قبل مغادرته القصر لم يكن إلا إجراء روتينياً لا مفاعيل جدية له، فهو وإن ألمح إلى وجود ما يستدعي إعلان حالة الطوارئ إلا أنه ترك هذا الامر للجيش الذي سلمه مسؤولية كان قد تسلمها في الأصل بتكليف من الحكومة. ومن جهتها لم تنفذ المعارضة ما كانت تهدد به من نزول إلى الشارع واقتحام للسرايا الحكومية منعاً للحكومة غير الشرعية، في نظرها، من البقاء في السلطة في غياب رئيس للبلاد. ولم يحدث “الشر المستطير" الذي حذر رئيس البرلمان نبيه بري منه في حال دخل لبنان في الأيام العشرة الأخيرة (14-24 نوفمبر/تشرين الثاني) من ولاية الرئيس من دون انتخاب خلف له. انتهت المهلة الدستورية وفشلت كل الوساطات العربية والأوروبية والمحلية في اجتراح “معجزة" انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. لكن اللبنانيين الذين حبسوا أنفاسهم ولا يزالون منذ عام ونيف هو عمر الأزمة الأخيرة فوجئوا أن “فخامة الفراغ" الذي حل بقصر بعبدا غداة الرابع والعشرين من الشهر الجاري لم يكن أسوأ أو أفضل من فخامة الرئيس الذي مكث فيه سنوات تسعاً، ثلاث منها كانت نصف ولاية ممددة مطعون بشرعيتها من حكومة هي الأخرى تفتقر إلى شرعية مجمع عليها. ويبدو الهدوء السائد تحت حكم الفراغ وكأنه الدليل على أن لا حاجة للبنانيين إلى رئيس أو سلطة سياسية وانهم يستطيعون تدبر احوالهم من دون زعماء يتخاصمون ويتصالحون على حساب الناس ولمصالح فئوية وشخصية ضيقة أو تنفيذاً لأوامر خارجية. ويتفق الجميع على أن لا حرب أهلية جديدة في لبنان ولا فتنة مذهبية ولا فوضى أمنية وأن إدارة الفراغ ستتم بأفضل الطرق الممكنة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. لكن وراء الأكمة ما وراءها فالهدوء قد يسبق العواصف والسكينة الزلازل. هذا الهدوء في لبنان ليس من النوع المطمئن القادر على الديمومة لأنه مرتبط بإرادة خارجية قررت وضع الملف اللبناني جانباً في انتظار جلاء الأوضاع الإقليمية التي طالما ارتبط بها الشأن اللبناني المعقد. هناك من يربط انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بالنتائج التي سوف يتمخض عنها اجتماع أنابولس. وزير الخارجية الفرنسي الذي يرفض الإقرار بفشل مبادرته متفائل بانقشاع الغيوم اللبنانية في القريب العاجل. وتفاؤله هذا ذو ارتباط وثيق باعتقاده أن شيئاً ما سوف يخرج عن اجتماع أنابولس. ذلك أن الإدارة الأمريكية لا تتحمل تبعات فشل جديد في الشرق الأوسط تضاف إلى لائحة اخفاقاتها الطويلة وبأن هذا الاجتماع لابد من أن يتمخض عن شيء جديد، في الظاهر على الأقل، بدليل موافقة دول عربية، كانت مترددة، على الالتحاق به. هذا الحشد من الدول العربية والغربية ومن الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لن يكون فقط للعلاقات العامة والوقوف أمام الكاميرات. ثمة حاجة ماسة لدى الجميع للخروج بإنجاز، وهو ما قد ينعكس إيجاباً على الوضع اللبناني. ولكن ما يعتبره البعض إنجازاً قد ينظر إليه آخرون على أنه تحد جديد تنبغي مواجهته والعمل على إجهاض مفاعيله، والساحة الصالحة لمثل هذه المواجهة تبقى بلاد الأرز. لقد انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 عشية الإعداد للصلح المصري- “الإسرائيلي" واتفاقات كامب-ديفيد. وتحول لبنان إلى ساحة مواجهة وتجاذبات بين من يؤيد الانخراط في الصلح الإقليمي الجديد ومن يود مواجهته. ودامت المواجهة خمس عشرة سنة دمر فيها لبنان تدميراً كلياً من دون أن تنتهي المواجهة التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا مع تبدل اللاعبين وقواعد اللعبة. منذ ذلك الحين سالت مياه كثيرة في العالم ودماء كثيرة في الشرق الأوسط. أخفق اللبنانيون في توحيد انفسهم وفشلت “إسرائيل" في القضاء على حزب الله رغم كل الدعم الأمريكي وانهارت مشاريع إدارة بوش الشرق-أوسطية وفشل الفلسطينيون في المحافظة على ما حققوه من انجازات ضئيلة فباتت فلسطين اثنتين، وهي لم تصبح دولة بعد، واحدة في غزة تنتمي إلى تحالف إقليمي معاد لتحالف آخر انضوت فيه السلطة القابعة في الضفة مقطعة الأوصال بفعل الاستيطان “الإسرائيلي" المتعاظم. في المقابل نجحت إيران في الابقاء على مشروعها النووي رغم كل التهديدات وسوريا في الخروج من عزلتها الدولية الناتجة عن الحرب الأمريكية على الإرهاب وعلى العراق. نجحت إيران وسوريا بفعل الفشل الأمريكي في لعبة صفرية يربح فيها طرف اذا خسر الطرف الآخر. لبنان هو اليوم في قلب هذا المشهد العاصف وانتخاباته رئاسية كانت أو برلمانية أو حتى بلدية رهن بهذه التحولات. لقد عاد صفيحاً ساخناً تطبخ عليه التسويات الإقليمية المتعسرة. لن تقدم سوريا تنازلاً مجانياً لبوش في لبنان وهو المكان الوحيد- قبل العراق- الذي يمكن لها فيه تحقيق نقاط على خصومها. كذلك لن تفعل إيران لاسيما بعد ان برهن حليفها حزب الله عن قدرة غير عادية على افشال المخططات “الإسرائيلية" والأمريكية العسكرية منها (عدوان يوليو/تموز 2006 خير مثال) والسياسية (كل المشاريع والبرامج منذ 2005 على الأقل). أما الولاياتالمتحدة فهي بصدد اتخاذ القرار المتعلق بإقفال الملف النووي الإيراني إما سلماً إذا تمكن اجتماع أنابولس من فتح باب التسويات في الشرق الأوسط أو حرباً مع المفاعيل الكارثية المحتملة لهذا الخيار على المنطقة والعالم. عن صحيفة الخليج الاماراتية 1/12/2007