دارفور .. ضحية الاستعمار الجديد باسم العولمة د. عبد العاطى محمد ليس من سمع مثل من رأى، كلمة يتداولها الناس أحسب أنني واحد منهم، ولكنها تبدو أكثر صدقا إذا ما كان المرء قريبا من الحدث إلى حد لصيق، وإذا ما كان الحدث بالخطورة ويثار حوله الجدل ويحتاج بالفعل إلى اختبار على أرض الواقع. قصدت من هذا التمهيد القصير أن أدخل إلى موضوع أتصور أنه يشغل المنطقة العربية والعالم اليوم مثلما الجميع مشدود إلى ما يجرى في العراق ولبنان والصومال وهو ما يجرى في دارفور، وما يتم من جهود دولية وعربية وإقليمية لمواجهته، لقد كنت وجها لوجه مع كل من شاركوا في المؤتمر الدولي الذي نظمته الأممالمتحدة بتعاون مع الاتحاد الإفريقي ودعم من الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وأعضاء مجلس الأمن الدائمين ودول الجوار مصر وتشاد وليبيا وإريتريا، ولعبت فيه ليبيا دورا مهما ليس فقط من حيث الاستضافة في مدينة «سرت» وإنما من حيث الدور الذي لعبته ولاتزال لتجميع الفصائل الدارفورية المتمردة للتفاوض نهائيا على تسوية سلمية للأزمة مع الحكومة السودانية. وبعد يومين من المتابعة المباشرة للصخب الذي أحاط بالمؤتمر والمفاجآت التي شهدها وكان أبرزها رفض الفصائل الرئيسية للمشاركة، وكان من أبرزها حركتا تحرير السودان والعدل والمساواة بوصفهما الأساسي وليس من خلال الفصائل التي انشقت عنهما.. بعد المتابعة والمشاهدة عن قرب خرجت بنتيجة أتصور أنها تحظى بأهمية وتستحق المناقشة من كل المعنيين بالأحداث الساخنة التي تمر بها المنطقة العربية منذ عدة سنوات، وهى باختصار أن العولمة أصبحت مثل كرة الثلج التي تتدحرج تدريجيا وتتسع وتكبر لتصبح لونا جديدا من الاستعمار الغربي للمنطقة العربية يختلف عن كل أشكال الاستعمار السابقة سواء التي اتخذت الطابع الاحتلالي العسكري أو السيطرة الاقتصادية، إنه لون استعماري يتضمن الشكلين السابقين ويضيف لهما توجهه مباشرة إلى الشعوب وليس ضد الحكومات والدول. وبتأمل ما يجرى يستطيع المرء أن يكتشف حجم الزيف الكبير الذي تتسم به مواقف الدول الغربية الكبرى التي تتحدث عن مصلحة الشعوب العربية وأنها لا تتدخل في سيادة دولها، وإنما تدافع عن حقوق الإنسان أينما كان، بينما هي تستغل العولمة في تمرير هذا اللون الاستعماري الجديد. لقد تحرك المجتمع الدولى بحماسة شديدة على مدى الشهور الماضية في ملف دارفور ووضعه في مقدمة أولوياته، وجعله إحدى المهام الرئيسية التي اضطلع بها السكرتير العام الجديد للأمم المتحدة بان كي مون فور توليه منصبه خلفا لسابقه كوفى عنان، واختطفت الأممالمتحدة الملف من الاتحاد الافريقي على خلاف الأعراف السابقة لمنظمة الوحدة الافريقية التي كانت تشير دائما إلى أنها قادرة على مواجهة الأزمات الافريقية بنفسها. وجاء الاختطاف بضغط داخلي وقوي من الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا على أساس أن تجربة العراق كشفت لهم ضرورة استباق الأحداث والتدخل تحت غطاء الشرعية الدولية ممثلة في الأممالمتحدة لمواجهة الأوضاع الإنسانية الصعبة التي ترتبت على اندلاع أزمات داخلية، يرى المجتمع الدولي أنها تهدد الأمن والسلم الدوليين، وكذلك معاقبة الدول التي تكون مسؤولة عن هذه الأزمات سواء بالعقوبات الاقتصادية أو بالتدخل العسكرى المقنن. وظهرت قضية دارفور مثالا نموذجيا من وجهة نظر المجتمع الدولي على مثل هذه الأزمات التي يتم التعامل معها بهذه الاستراتيجية العالمية الجديدة، وصدرت عدة قرارات من مجلس الأمن الدولي بشأن أزمة الإقليم، وقام بان كي مون وسالم أحمد سالم ممثلا للاتحاد الافريقى بزيارات ميدانية لدارفور لتفقد الأوضاع على الطبيعة، وعززت هذه الزيارات الانطباع لدى المجتمع الدولي بأن الأزمة ليست خلافات قبلية أو أهلية بين شعب دارفور والحكومة السودانية، وإنما هي نتيجة أخطاء من الخرطوم سياسية واقتصادية جعلت الوضع يتدهور هناك إلى حد أنه أصبح يهدد الأمن والسلم الدوليين، خصوصا أن الأزمة تشابكت فيها أطراف من دول الجوار شعرت بأنها تهدد أوضاعها فتحركت إما بالوساطة وإما بالتدخل لجانب هذا الفصيل أو ذاك، وكلما زاد التدخل الإقليمي تعقدت أبعاد الأزمة وأدت إلى نوع من التهديد للأمن والسلم الدوليين. ولكن حقيقة اندلاع الأزمة وتفاعلاتها لها مدخل مختلف تماما عن المدخل السابق يكشف سوء نيات التدخلات الدولية الراهنة في خلافات المنطقة العربية الثنائية أو الفردية، وكيف أن العولمة باعتبارها مظهرا سياسيا لطبيعة الوضع الدولي الراهن قد تم استغلالها بخبث لإعادة تشكيل الأوضاع الداخلية وتمرير النمط الجديد من استعمار شعوب المنطقة، فمن ناحية أولى أخافت العولمة الأقليات والتجمعات العرقية والدينية واللغوية المتعددة بحكم التاريخ والتكوين الاجتماعي للمنطقة العربية وجعلتها تفكر في ذاتها للحفاظ على وجودها المهدد بالاندثار بحكم شروط العولمة التي تقضي على جذور الشخصية الوطنية وتحل بدلا منها الشخصية العولمية التي تتعدى حدود الانتماء الوطني. وكانت منطقتنا العربية تربة مناسبة للغاية لتفجير حمى الأقليات وغيرها من التجمعات العربية واللغوية بالنظر إلى الحساسيات المحيطة بها وصراعاتها الكامنة وإحساسها بقوة ذاتها. وقد استطاعت الأنظمة الوطنية أن تصل إلى صيغ مختلفة لإطفاء حرائق هذه الحمى وتسكين الأوضاع واستقرارها دون المساس بحقوق هذه التجمعات، وعاشت المنطقة العربية زمنا طويلا في ظل هذا الاستقرار دون أزمات من هذا النوع، إلى أن ظهرت العولمة وأشاعت جو الترهيب والخوف لدى هذه التجمعات، فأصبحت متأهبة وجاهزة لقبول من يمد لها يد العون من الخارج ويدفعها للصراع مع دول المركز، ومن ناحية أخرى فإن تنافس القوى الكبرى الصناعية على ثروات العالم النامي ازداد بشراسة بسبب حمى العولمة أيضا استنادا إلى أنها تثير التنافس الشرس بين الدول الصناعية للاستيلاء على الثروات الطبيعية وحركة المال والتجارة. وفى المناطق الرخوة، أي تلك القابلة لأن تكون مسرحا للمنافسة الدولية وتطبيقات العولمة تصبح الفرصة مناسبة للتعبير عن المواجهات الدولية الاقتصادية إلى حد الاصطدام والقيام بناء على ذلك بأعمال لا تختلف عن صور الاستعمار القديم، قوامها إحكام السيطرة على هذه المناطق الرخوة، خصوصا إن كانت غنية بالثروات الطبيعية، وكان من المتوقع استنادا إلى متطلبات الشفافية في الشرعية الدولية والشعارات التي ترفعها الدول الكبرى أن يقوم المجتمع الدولي بدور سلام حقيقي بين الأطراف المتنازعة في الأزمات الداخلية، لا أن يصبح سندا للقوى الوليدة المطالبة بالانفصال أو امتلاك السلطة وهز استقرار الدول المركزية، إلا أن منطق القوة المهيمنة الذي يعمل دائما لصالح القوى الكبرى حكم سياسات المجتمع الدولي وجعل الدور الدولي تدخليا سافرا لتحقيق الانقلاب على الدول المركزية وتفتيت، المنطقة وسط اضطراب حقيقي في الأساسين القانوني والأخلاقي الذي يبرر هذا التدخل الدولي بمثل هذه الصورة السافرة. فميثاق الأممالمتحدة يتحدث عن التدخل الدولي في أزمات بين الدول تصل إلى حد العمل العسكري والعقوبات الاقتصادية تطبيقا للفصل السابع، ولا يتحدث عن كيفية التعامل مع الأزمات الداخلية التي تظل شأنا داخليا للدول، وأهلها أولى بظروفهم وبكيفية تسوية أزماتهم مع دولهم المركزية. وحتى ما يتعلق بحقوق الإنسان وتقرير المصير لم يتم تطبيقه بشفافية وعدالة كما يقضي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي استند إليه قيام الأممالمتحدة نفسها، ففي كل الحالات التي أثير فيها هذا الموضوع تم التلاعب بحق تقرير المصير من القوى الكبرى لصالحها وليس لصالح أصحاب القضية، ولو أخذنا مثالا على ذلك فإن القضية الفلسطينية تعد خير شاهد على زيف الموقف الدولي، ذلك الموقف الذي أعطى لإسرائيل حق قيام دولتها العبرية على أرض فلسطينية مغتصبة بالقوة، وأهمل حتى الآن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني صاحب الأرض والتاريخ. وعودة إلى قضية دارفور كما بدت مشاهدها المحزنة في مؤتمر «سرت» يتضح زيف التحرك الدولي الذي نجح للأسف في اختطاف القضية وتحويلها إلى أزمة سودانية مستفحلة، وأربك بها العلاقات الدولية العربية والافريقية. فلنا بداية أن نسلم بأنها أزمة سياسية قبل أن تكون أمنية أو إنسانية جوهرها سوء الإدارة والحكم في الإقليم والخلاف بين دولة المركز وأمام دارفور، وأن الحكومة السودانية تعاملت في البداية بمنطق الدولة المركزية صاحبة السياسة التي تفرض نفسها لوقف أي حركات للتمرد، حفاظا على الاستقرار والسيادة وعندما تدهور الموقف وافق على أن تتفاهم سياسيا مع زعامات الإقليم وقواه السياسية الصاعدة وقبلت بدور واضح للاتحاد الافريقي. بل وللمجتمع الدولي لإعادة الاستقرار الأمني وحل المشكلات الإنسانية التي ترتبت على اندلاع العنف، ووافقت على نشر قوات دولية هجين من الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي، وتنازلت في ذلك عن جانب من السيادة الوطنية، وتحملت ضغوطا دولية سياسية واقتصادية لإجبارها على قبول خطوات لتسيير الإدارة والحكم في الإقليم خارج اعتبارات السيادة الوطنية، مع ملاحظة أن ذلك يؤدي إلى إذكاء مطالب التمرد والانفصال لدى أقاليم أخرى في السودان سواء في الجنوب أو الشرق، كما ضمت الحكومة السودانية عناصر من إقليم دارفور نفسه للتعبير عن حسن نياتها تجاه إشراك الدارفوريين في الحكم، فعندما حان موعد المؤتمر الدولي (27 أكتوبر) أعلنت أنها ستوقف إطلاق النار من جانب واحد لتوفير الأجواء المناسبة للمفاوضات النهائية.. فماذا حدث برغم كل ذلك؟ لم تحضر قيادة كل من حركة تحرير السودان والعدل والمساواة، وفصائل أخرى عديدة صغيرة، بينما حضرت 7 فصائل منشقة أو مستقلة، ولكنها غير مؤثرة في تسوية الأزمة. وكان في استطاعة فرنسا التي تستضيف عبد الواحد نور زعيم حركة تحرير السودان أن تجبره على الاشتراك في المؤتمر الدولي، وكانت واشنطن قادرة على توجيه رسائل صريحة لكل الفصائل المتمردة بضرورة المشاركة، وكان في استطاعة الأممالمتحدة أن تؤجل المؤتمر لحين التأكد من جدية الفصائل التي كانت هي أول من طالب بالمفاوضات وعقد المؤتمر استجابة لطلبها، وكان بالإمكان اتخاذ إجراءات عديدة ضد هذه الفصائل من جانب أعضاء مجلس الأمن أقوى من إصدار قرار غير ملزم بفرض عقوبات على قادتها الرافضين. وكان من الضروري وضع جدول زمني للمفاوضات وإعلان خريطة مطالب محدودة من الجانبين: الفصائل بوفدها الموحد، والحكومة السودانية. كل ذلك لم يحدث، أي لم يتم الإعداد الجيد، وبدلا من ذلك تقرر عقده بمن يحضر من الفصائل غير المؤثرة لتوصيل رسالة واحدة هي أن المجتمع الدولي هو صاحب القرار وحده دون توضيح لمشروعه السياسي في الإقليم، ولا يهم استمرار الصراع هناك أو إطالة أمده، فإلى أن تتفق الدول الكبرى على مصالحها الاقتصادية في ثروة السودان، وعلى تغيير طبيعة الحكم فيه لابد من وجهة نظرها أن تتسم العملية السياسية بالعمومية والغموض، وأن يتزايد دور الفصائل الرئيسية في مقابل إضعاف السلطة المركزية السودانية. وإلى أن يجرى إحكام السيطرة على سياسات دول الجوار من جانب القوى النافذة في مجلس الأمن، لا بأس من الذين نظموا المؤتمر أن يبقى الوضع الصعب في الإقليم مشتعلا وضاغطا على هذه الدول والحكومة السودانية. وكان لافتًا أن الفصائل اجتمعت مع سيلفا كير حاكم جنوب السودان ورئيس الحركة الشعبية قبل مؤتمر «سرت»، وتم تفسير اللقاء على أنه ورقة ضغط سياسية إضافية من جانب الفصائل الدارفورية وجنوب السودان على حكومة السودان، فالملف يتسع ويحتاج من وجهة نظر الطرفين إلى مزيد من الوقت لإجلاء الشروط «الانفعالية» المؤيدة دوليا بشكل غير مباشر (من خلال المؤازرة وأشكال الإيواء والدعم الذي يلقاه قادة الفصائل من الخارج) على الحكومة السودانية. وهكذا أراد المجتمع الدولي في ظل العولمة الراهنة أن يبقى ملف دارفور مفتوحًا لحين استيفاء المصالح الدولية، بينما شعب دارفور ينام في الخيام، ويتم اختطاف أطفاله من عصابات فرنسية لبيعهم في تجارة الرقيق في فرنسا. ولا يستطيع الدور العربي أن يُفعِّل نفسه وسط هذا الحصار الدولي، والمساعدات المطروحة من جانبه لا يمكن وصولها لمستحقيها ما دام لا يحقق وقفًا لإطلاق النار، أو بالأحرى ما دام قادة الفصائل الرئيسية لم يقولوا كلمتهم بعد، انتظارا لما تريده منهم القوى الغربية النافذة في هذا الملف الساخن. عن صحيفة الوطن القطرية 4/11/2007