مبادرات الواثقين العرب والخائفين في إسرائيل فهمي هويدي شاءت المقادير أن تتلاحق في أفق المنطقة خلال الأيام العشرة الأخيرة، ثلاث مبادرات تعليمية، اثنتان عربيتان وواحدة إسرائيلية ، لها دلالاتها التي ينبغي أن تستوقفنا. فقبل ثلاثة أيام (الأحد الماضي 28/10) عقد في دبي المؤتمر الأول للمعرفة، الذي دعت إليه مؤسسة محمد بن راشد المكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات حاكم دبي، للتشاور حول الأفكار التي تخدم جهود التنمية المعرفية في العالم العربي. وكان الشيخ محمد بن راشد قد أعلن في صيف العام الماضي عن تخصيص عشرة مليارات دولار لكي تستثمر في تعزيز البنية الأساسية للتعليم العالي والبحث العلمي في العالم العربي. وجاءت الدعوة لعقد المؤتمر الذي شاركت فيه نخبة ضمت 200 شخص من المثقفين والأكاديميين العرب البارزين، عقدوا 15 جلسة خلال يومين في دبي، لتشخيص أوضاع المعرفة والبحث العلمي في العالم العربي، وتحديد القضايا المفصلية التي يتعين التعامل معها لانتشال الأمة من واقع التخلف الثقافي البائس الذي تعاني منه شعوبنا، ويؤثر سلبا على مخططات ومشروعات التنمية في كل مجال. وفهم أن المؤتمر بداية لسلسلة من اللقاءات والمشاورات الحوارية التي يفترض أن تنتهي بوضع استراتيجية للمضي قدما في سبيل نشر المعرفة والارتقاء بمستوى التعليم والبحث العلمي، وأتاحت الفرصة أمام المبدعين لكي تنمى مهاراتهم وقدراتهم، بما يسمح بتهيئة الأجيال لقيادة المستقبل، ومن ثم تحقيق النهوض المرجو للعالم العربي. في الكلمة التي ألقاها الشيخ محمد بن راشد بجلسة الافتتاح، أعلن عن نهوض المؤسسة ببرنامج طموح تضمن أربعة عشر مشروعا جديدا في مقدمتها ما يلي: إصدار تقرير سنوي لقياس حالة المعرفة في العالم العربي، بالتعاون مع برنامج الأممالمتحدة الإنمائي وضع برنامج لتحسين التعليم الجامعي وتطويره، بالتعاون مع برنامج الأممالمتحدة للجودة والاعتماد إقامة شبكة لتمويل الأبحاث في العالم العربي، وفتح قنوات للتعاون بين الباحثين العرب. وستكون البداية بمشروعين محوريين أولهما شبكة الإدارة العامة، وثانيهما المجلس العربي للعلوم الاجتماعية برنامج للبعثات يتبنى الشبان العرب الواعدين الراغبين في إجراء دراساتهم العليا بأرقى الجامعات وأكثرها تقدما شبكة لتدريب المدرسين العرب برنامج لتشجيع طلاب الجامعات على الابتكار تأسيس مجمع المعرفة الذي يتولى توفير مصادر المعرفة ونشرها وتيسير الوصول إليها من خلال تبني مشروعات المعرفة الجديدة، ونقلها من مصادرها الأجنبية إلى اللغة العربية، مع السعي للنهوض بعملية الترجمة من خلال وضع برنامج لتدريب ورفع كفاءة العاملين في ذلك المجال. قبل مؤتمر دبي بأسبوع كان خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز قد وضع حجر الأساس لصرح حضاري آخر، أطلق عليه اسم «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية». وفي حفل وضع حجر الأساس للمشروع الكبير بشمال محافظة جدة أعرب الملك عبد الله عن أمله في أن تصبح الجامعة الجديدة «منارة من منارات المعرفة، وجسرا من جسور التواصل بين الحضارات والشعوب، وأن تؤدي رسالتها بلا تفرقة ولا تمييز». وفي التقارير التي نشرت فإن الجامعة سوف تتبنى برنامجا «للشراكة البحثية العالمية» وستوقع في عام 2008 المقبل اتفاقيات شراكة مع خمسة مراكز بحثية، و12 فريقا للبحث، و20 باحثا من العاملين في المجالات العلمية والهندسية التي تعد جوهر رسالتها، مثل بحوث تحلية المياه وعلوم الحاسب الآلي والرياضيات التطبيقية، وعلوم الحياة الخاصة ببيئة البحر الأحمر، وأبحاث الطاقة والهندسة الحيوية والنانوتكنولوجي. في الخطابات التي ألقيت أثناء الاحتفال بهذه المناسبة اعتبر الجميع أن جامعة العلوم والتقنية بمثابة نقلة حضارية إلى آفاق القرن الواحد والعشرين. تستلهم تجربة «دار الحكمة» التي عرفها المسلمون في العصر العباسي، وظلت منارة للعلم والمعرفة، أشعت بضيائها على عالم ذلك الزمان، وتركت بصمات لا تمحى في مسيرة الإنسانية. وقال المتحدثون إن المشروع الجديد بطموحاته المرجوة يعد إحياء وبعثاً لفكرة دار الحكمة في العصر الحديث. إذ ستلتقي في رحابه جهود كوكبة من أهم العلماء والباحثين للعمل معها من أجل إلحاق العالم العربي بركب التقدم، وسد الفجوة المعرفية بين الأمة العربية الإسلامية والعالم المحيط بها، سواء من خلال إطلاق طاقات البحث العلمي المتميز والمتقدم، أو من خلال التعامل مع الهيئات العلمية المرموقة في مختلف دول العالم. حين يضع المرء المشروعين جنبا إلى جنب يدرك لأول وهلة أنهما بمثابة جهد حضاري يطرق أبواب التقدم والرقي من باب إشاعة المعرفة والنهوض بالبحث العلمي. صحيح أن الأحلام فيهما تتجاوز حدود الواقع، إلا إننا نعرف أن الانجازات الكبيرة التي حققتها البشرية بدأت أحلاما راودت البعض، وكانت في ميلادها مثيرة للدهشة والاستغراب، وربما الاستنكار أيضا. ونعرف أيضا أنه بالإرادة القوية والعمل المخلص والجاد فإن الأحلام تحولت إلى حقائق. وما ظنه البعض مستحيلا صار ممكنا. صحيح أن ثمة تساؤلات مشروعة حول التنسيق بين المشروعين الكبيرين، بحيث يكملان بعضهما بعضا، ويشكلان رافدين متوازيين يصبان في محيط النهضة المنشودة، إلا أن مثل هذه التساؤلات تطرحهما خطى التنفيذ، حيث إننا في السياق الراهن نقف أمام الفكرة والطموحات الحضارية التي تعبر عنها. المبادرة الثالثة تعليمية أيضا وصادرة عن إسرائيل. وتتلخص في سعي حكومة الدولة العبرية إلى استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لتدريس الهولوكوست في المناهج الطلابية المقررة على الدول الأعضاء . وكانت إسرائيل قد حققت ذلك النجاح في بعض دول شمال أوروبا، ولكن ذلك تم بتواطؤ مع الأطراف الصهيونية والموالية لها. وأرادت بها ابتزاز الأوروبيين وإثارة تعاطفهم معها، من خلال تكريس إشعارهم بعقدة الذنب إزاءها، وهو الابتزاز الذي لا يزال مستمرا في ألمانيا منذ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتمثل في التعويضات التي ألزمت المؤسسات والشركات الألمانية بدفعها لإسرائيل، تكفيرا عن الأفعال التي ارتكبها النظام النازي أو نسبت إليه. كما فعلت الحكومة الإسرائيلية عند إقامة الدولة العبرية في عام 1948، حين وضعت مناهج التربية والتعليم وأرادت بها أن تعيد تشكيل الأجيال الجديدة فيما عرف بسياسة تنشئة «الإسرائيلي الجديد» الذي يقدس الروح القتالية ويعيش على كراهية العرب والنفور منهم، فإنهم يتطلعون إلى عبرنة العالم وتقرير الهولوكوست على الأجيال الجديدة في مختلف الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة . لا تقف الجرأة عند ذلك الحد، وإنما ذهبت إسرائيل إلى أبعد بحيث أرادت أن تكون روايتها للهولوكوست وحدها المعتمدة من جانب الجمعية العامة، ولا تترك للدول الأعضاء أن تتولى من جانبها سرد تلك الرواية. وتلك لعمري مرحلة متقدمة من الاستعلاء والعجرفة، لا أظن أنها مسبوقة في النظام الدولي. لقد نجحت إسرائيل في أن تفرض روايتها للهولوكوست على الأوروبيين، وأحالت ما اعتبرته تاريخا لها بهالة من التقديس ليست قابلة للنقد أو المراجعة. فلم يعد بمقدور أي باحث أوروبي أن يناقش أو يراجع شيئا من وقائع الهولوكوست، وسيقع أي واحد منهم في المحظور الذي يعرضه للسجن إذا نقض رقم الملايين الستة من اليهود الذين تقول إسرائيل إنهم أحرقوا في أفران الغاز، فقال مثلا إنهم خمسة ملايين ونصف مليون وليسوا ستة ! وإذا وضعنا هذا المشروع الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع المشروع الآخر الذي تريد حكومة تل أبيب بمقتضاه أن تستصدر قرارا من الجمعية العامة للأمم المتحدة يلزم الدول الأعضاء بمنع الحركات الإسلامية من المشاركة في أي انتخابات محلية بحجة أنها عنصرية وإرهابية، فإن ذلك يصور لك مدى الاستعلاء والعربدة الذي تتسم به الممارسات الإسرائيلية، ليس بحق العالم العربي والإسلامي فحسب، ولكن بحق العالم الغربي أيضا. حين نطالع المشهد عن بعد نجد أن المبادرتين العربيتين تشكلان خطوة حضارية إلى الأمام، تسعى من خلالهما الدولتان إلى تأسيس قاعدتين علميتين من أجل التقدم والازدهار، في حين أن المبادرة الإسرائيلية لا تبني شيئا، لا للسلام ولا للتقدم أو العلم، وإنما تتطلع إلى بسط رؤيتها الثقافية وتعميم تاريخها على الجميع. وإذا كان ذلك يعبر عن الاستعلاء والعربدة من جانب إلا أنه يعكس مدى القلق الوجودي الذي تستشعره إسرائيل، الأمر الذي يدفعها إلى محاولة تأسيس شرعية تضمن لمشروعها الاستمرار، وهي لم تكتف في ذلك بغسيل أدمغة الأجيال الجديدة من الإسرائيليين، وإنما تتصور أنها لا بد أن تغسل أيضا أدمغة شباب العالم بأسره. إن وراء المبادرتين العربيتين ثقة واطمئنانا، أما المبادرة الإسرائيلية فهي تعبير عن الخوف العميق من المستقبل. لذلك فإن الأولين يبنون، في حين أن الآخرين يعربدون.. وطوبى للبنائين في كل زمان. عن صحيفة الشرق الاوسط 31/10/2007