دعوة للتحقيق والتقويم أيضا! د. عبد المنعم سعيد لو كنت مكان وزير الخارجية القدير السفير أحمد أبوالغيط, لشكلت لجنة عليا من كبار الخبراء لبحث أسباب التراجع الأوروبي الواسع النطاق الي الامتناع عن التصويت بعد سنوات من التصويت الي جانبنا علي قرار تطبيق وسائل الحماية للوكالة الدولية للطاقة الذرية في الشرق الأوسط, هذا التحول جعل25 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي يمتنعون عن التصويت بينما صوتت دولة واحدة لصالحنا( ايرلندا) وغابت أخري( النمسا) في قضية تبدو محسومة للغاية تتعلق بامتلاك إسرائيل للأسلحة النووية, مما يعد انتهاكا لنظام منع انتشار الأسلحة النووية وحماية الاقاليم من مخاطر المفاعلات الذرية, في وقت تحتاج فيه أوروبا والوكالة الدولية للطاقة الذرية الي درجة من درجات التوازن في لحظة الهجوم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي علي إيران, بسبب الشك في قيامها بتنمية أسلحة نووية, وهكذا انخفض عدد المؤيدين للقرار المصري من98 دولة الي53 معظمها من الدول العربية والإسلامية مما يشكل تغيرا جوهريا في الموقف الدولي من قضية الأسلحة النووية سواء في الشرق الأوسط أو علي مستوي العالم يعطي لإسرائيل استثناء بدرجة وطعم التأييد علي القواعد العامة للنظام الدولي. أسباب هذا التغير تحتاج الي بحث وتحقيق, وليس مقنعا كثيرا ما يقوله الأوروبيون بأن مصر غيرت في صياغتها السنوية للقرار وأدخلت تعديلات في الصياغة لم يتم التوافق عليها أو التفاوض بشأنها, وهي تحتاج الي بحث وتحقيق وتقويم لأن تحولا بهذا الحجم كان منتظرا توقعه من جانب الجهاز الدبلوماسي المصري بكل ما له من أصالة وقدرة وحصافة بحيث تنذر أصحاب القرار في مصر كي يقوموا بما يكفي من جهود دبلوماسية وسياسية لكي يمر القرار علي الأقل بنفس الأغلبية, أو يسحبوا الصيغة المصرية الجديدة ونبقي علي ما حدث التوافق عليه بالفعل. ولكن الجانب الأهم للموضوع لا ينبغي له أن يكون تكتيكيا متعلقا بالتصويت علي قرار في منظمة دولية صدرت عشرات من القرارات مثله, منها ومن غيرها, وانما يتعلق بتقويم الموقف الدولي من قضايا الشرق الأوسط كلها خاصة تلك المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي, فأخشي ما أخشاه أنه قد حدث تحول عالمي جوهري فيما يتعلق بصراع, وصراعات, الشرق الأوسط في اتجاه غير موات للمصالح المصرية والعربية السياسية أو الاستراتيجية, وقد حدث هذا التحول نتيجة عدد من العناصر أولها معلوم ويتعلق بما حدث في الحادي عشر من سبتمبر عام2001 من أحداث إرهابية قام بها جماعة انتمت الي العالم العربي والإسلامي, وتبعتها عمليات أخري في لندن ومدريد, كما قامت جماعات مشابهة بعمليات في الهند والصين وأقاليم في روسيا والبلقان, ولو كان ذلك هو ما حدث فقط لكان مفهوما من العديد من القوي الدولية, التي عرفت هي الأخري جماعات إرهابية من نوع أو آخر, ولكن المشهد أسفر عن موجات كبري من الفرح والاحتفال, وإعلان من قاموا بالعمليات حتي تلك التي جرت في بلدان عربية من قبل البعض شهداء عند ربهم يرزقون, ومع كل ذلك صار أسامة بن لادن وصحابته أبطالا لدي كثيرين, وتفجرت في هذه التطورات جميعا نوبات حارة من الكراهية لم تكن تجاه الولاياتالمتحدة وحدها لأنها تؤيد إسرائيل, بل شمل ذلك الدول الغربية حتي الأغلبية منها التي كانت تحاول التوصل الي موقف متوازن, وبرغم أن الحكومات العربية المختلفة أبقت علي علاقاتها الطيبة علي المستويات السياسية والاقتصادية مع دول العالم عامة, والغربية خاصة, إلا أنها لم تبذل جهودا كبيرة من وجهة النظر الغربية علي الأقل لوقف هذا الطوفان من العداء, أو علي الأقل لشرح ما تقدمه الدول الغربية والأوروبية خاصة سواء للشعب الفلسطيني أو للشعوب العربية من حيث العلوم والتكنولوجيا والمعونات والفرص الاقتصادية, والأخطر من كل ما سبق أن الانطباع الذي بات سائدا لدي الدول التي غيرت من مواقفها التصويتية في الوكالة الدولية للطاقة الذرية هي أن الدول العربية ليست جادة في عملية السلام, وأن هذه الدول تحب القضية الفلسطينية ولكنها لا تحب كثيرا الشعب الفلسطيني, أو علي الأقل فإنها لا تحبه بأكثر مما تكره إسرائيل, ومن ثم فإن المبادرة العربية لاتزيد علي كونها مناورة عربية لتحسين الصورة وليس من أجل العمل الدبلوماسي والسياسي الجاد. كل ذلك بالطبع يمكن الاختلاف معه, ورفض منطقه, وتقويض الأسس التي يقوم عليها, ولكن المعضلة أن ذلك لم يحدث, وكل المتعاملين مع الدول الأوروبية, وطبعا الولاياتالمتحدةالأمريكية, سواء في الساحات السياسية والدبلوماسية أو في الساحات الأكاديمية والعلمية سوف يستمع الي هذا المنطق ومعه شكوي دائمة من مواقف محددة لها علاقة بعملية السلام أو بمقاومة الارهاب, حتي لو اعترفوا في ذات اللحظة بالمساعدات المشكورة لأجهزة المخابرات والأمن العربية التي تقدم للدول الغربية, وفي العلاقات الدولية فإن الإدراك وسوء الفهم يصبح حقيقة وواقعا لا تلبث أن تتحول الي سلوكيات ومواقف, ومن ثم فإن الموقف الأخير للدول الأوروبية ربما يكون عاكسا لاتجاه أكثر منه مؤشرا علي اختلاف في موقف تكتيكي حول صياغة القرار. وعلي أي الأحوال, فإن ذلك هو ما علينا بحثه والنظر إليه بدقة, وربما كان جيدا ذلك الموقف الذي أخذته وزارة الخارجية المصرية من مساءلة الدول الأوروبية حول أسباب تصويتها الأخير لو كان الأمر مجرد خلاف تيكتيكي, ولكن القضية سوف تكون أكثر استراتيجية اذا ما كانت معبرة عن توجه واتجاه, وهنا تحديدا يأتي موقف مصر من الاجتماع المقبل من أجل استئناف عملية السلام لأن ذلك كان واحدا من الأرصدة المصرية المهمة في الساحة الدولية, فالمسألة كما تبدو في الشرق الأوسط قد تشكلت في تحالف قوي يضم إيران وسوريا وحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين, وأنصارهم في دول عربية وإسلامية, يقوم علي رفض عملية السلام, والعمل علي تدميرها, وفي داخل مصر فإن أكبر جماعات المعارضة داخل مجلس الشعب المصري المعروفة بجماعة الاخوان المحظورة! قد حزمت أمرها علي نقض معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية, بالوسائل الشرعية حسب المعتدلين ونقضها وكفي من جانب الراديكاليين, وهو ما يعني فتح باب الحرب والصراع الخارجي والدولي ليس فقط مع إسرائيل ولكن مع حلفائها أيضا الذين عقدوا العزم علي استثنائها من النظام الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية وحمايته ا مباشرة اذا لزم الأمر, كما يعني في نفس الوقت اذا ما قيض للجماعة الأمر نهاية الآمال حول تنمية مصر ونهضتها لأن عليها مهام جساما تراها الجماعة أكثر حيوية. وبالطبع فإنه بمقدورنا أن نحتج علي ما يقوم به الأوروبيون, ونزيد من جرعة الحديث عن المعايير المزدوجة للولايات المتحدة وحلفائها, كما أن هناك من الغطرسة الإسرائيلية والمعاناة الفلسطينية ما يكفي كل أجهزة الإعلام المصرية والعربية للطم الخدود حتي نهاية القرن, ولكن كل ذلك لا يعفينا من المهمة التاريخية لبناء بلدنا وحمايتها مما فعل ويفعل الراديكاليون منا, وربما نحتاج عند تقويم الموقف كله الي نظرة فاحصة لما هو جار في فلسطين عقب قرار منظمة حماس بالانقلاب علي السلطة الوطنية الفلسطينية وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية, وما جري من اتجاه نحو التطرف بالتحالف الذي جري بين السيد محمود الزهار وزير الخارجية في حكومة حماس وأخيه السيد يوسف الزهار الممسك بزمام قوات الأمن والسيد نزار الريان الذي يريد تحويل غزة الي إمارة إسلامية علي الطريقة الطالبانية الآن وفورا, والأهم من ذلك كله النظر فيما قامت به حماس عندما قامت بدلا من مقايضة الأرض مقابل السلام مع اسرائيل, كما هو جوهر عملية السلام, فانها قررت وقف المقاومة مقابل الحصول علي الكهرباء من اسرائيل لكي تنعم بهدنة طويلة تكون مهمتها تغيير المجتمع الفلسطيني علي الطريقة الثيوقراطية الأفغانية أو الإيرانية, وهي صفقة بائسة بكل المعايير الاستراتيجية والسياسية. وربما كان علينا أيضا أن ننظر بنظرة فاحصة علي ما جري بين إسرائيل وسوريا خلال الفترة القصيرة الماضية, عندما قامت الأخيرة بالحصول علي امكانات نووية من كوريا الشمالية بالمخالفة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التي وقعت عليها سوريا, وقامت اسرائيل بالعدوان علي سوريا وتوجيه ضربة جوية جراحية لهذه الامكانات, فلماذا لم تعلن إسرائيل عن الموضوع, ولماذا أبقته سوريا غامضا, ولماذا وقفت الدول العربية صامتة, وكيف أثر ذلك علي قرارات الدول الأوروبية للتصويت في الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟.. وفوق ذلك كله فإن الدرس الذي نتعلمه هو أنه لا توجد أوضاع ساكنة في الشرق الأوسط, وما لم تتحرك قوي السلام فإن قوي الحرب تتحرك فورا, وكان ذلك ما جري في صيف العام الماضي بين إسرائيل وحزب الله, وبقي أن نعرف ما سوف يجري خلال الفترة المقبلة. ولمن تهمهم المصلحة المصرية في المقام الأول, ودون الولوج كثيرا في اضغاث أحلام تاريخية وجغرافية, أو من خلال كتابات ناسبت عصرها وزمنها خلال الستينيات, فإن المهمة الأولي لمصر في المرحلة الراهنة هي حماية عملية التنمية, وتحرير البلاد من الفقر, والتخلص من المعونات الدولية والعوز الدولي, واقامة نظام ديمقراطي يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين في اقليم يقوم علي التعاون والاعتدال!. عن صحيفة الاهرام المصرية 29/10/2007