«اقتصاد السوق» .. النموذج الناجح في مصر د. عبد المنعم سعيد قد يجد القارئ الكريم في العنوان ما يقلق، فالشائع لديه ولدى الجمهور أن الرأسمالية لا تعرف الثورة لأنها هي ذاتها صنيعة الرجعية تارة، والإمبريالية تارة أخرى، والاستغلال تارة ثالثة، وكل ذلك وغيره لا علاقة له بالثورة والتقدم والسير بالتاريخ إلى الأمام. ولكن ذلك لدينا فقط، وحتى لدى كارل ماركس نفسه فإن الرأسمالية هي ثورة تاريخية كبرى، وهي قاطرة هائلة للتقدم، وكل ما هنالك أن صاحب كتاب «رأس المال» لم يدرك أمرا واحدا وهو أن الرأسمالية على عكس كل النظم الاقتصادية والاجتماعية التي سبقتها قادرة على تجديد نفسها. وفي العقود الأخيرة جددت الرأسمالية نفسها مرتين: مرة عندما أطلقت ثورة تكنولوجية جديدة هي ثورة المعلومات التي خلقت قوى للإنتاج لم تعرفها البشرية من قبل، وكان طبيعيا بالنسبة لها أن تخلق علاقات إنتاج جديدة، ومرة عندما أحكمت بالقانون والقواعد وسائل محاربة الاحتكار الذي هو أحد الميول الرأسمالية والمعروفة والذي كان منوطا به قتل الرأسمالية كما قتلت نظما قبلها. مناسبة كل هذا الكلام الفلسفي هي تحويل كل شركات الأسمنت المصرية إلى التحقيق بتهمة قيامها بممارسات احتكارية عندما عملت على تنسيق السياسات السعرية فيما بينها مع فرض حصص للإنتاج لا تخرج عنه، وبالتالي يجرى القضاء على المنافسة التي هي جوهر الرأسمالية الحق. هذه الخطوة ذكرتني برحلة قمت بها في الزمن القديم إلى واشنطن وشاركت في رحلة سياحية، وما كان من السائق الذي كان يشرح لنا أهمية المزارات السياحية التي نمر بها إلا أن توقف أمام مبنى حكومي وقال إن ذلك المبنى هو الذي حطم شركة ءشش العملاقة بعد أن دفعت المؤسسة الحكومية أمام القضاء بممارساتها الاحتكارية فأقرت لها المحكمة بالصواب فتم تقسيم الشركة إلى عدة شركات وفتحت الأبواب أمام شركات جديدة. أيامها قال السائق إن ذلك الحكم أعاد له الثقة في النظام الأميركى، والنظام الرأسمالي لأنها كانت أول الاختبارات التي أكدت على حرص النظام الأميركي على حماية المنافسة. في مصر المسألة متشابهة إلى حد كبير، وربما كانت المسألة في مصر أفدح، فالثقة في النظام الرأسمالي معدومة، والهجوم عليه يأتي من اليسار واليمين معا، واليسار الذي لا يجد هناك مشكلة في احتكار الدولة يكاد يجن إذا ما كان الاحتكار- أو شبه الاحتكار- عن طريق الشركات، واليمين الذي يريد فرض أقصى درجات التحكم في عقول الناس وقلوبهم وجيوبهم، يزعجه كثيرا تلك الحالة من الحرية، والمبادرة الفردية، والقدرة على الاختيار التي توفرها الرأسمالية. ومع نقد اليمين واليسار يوجد نوع من المناخ العام، لا يرى في الرأسمالية إلا مقدمة للهيمنة الغربية، وضغطا على الفقراء ومحدودي الدخل، وباختصار سلبا للأمة في أعز ما تملك !. كل ذلك يضعه قرار المهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة الخارجية بتحويل شركات الأسمنت للتحقيق على محك التجربة والاختبار من خلال جهاز يبدو ناضجا وعارفا بأصول الموضوع وتطبيقاته في الدول الأكثر منا معرفة وممارسة وخبرة. وعندما يقوم بذلك فإنه في الحقيقة يضع على المحك أيضا الجهاز القضائي كله، فبصراحة فإن الخبرة المصرية، والخبرة القضائية، بالرأسمالية وقوانين محاربة الاحتكار، لا تزال محدودة. بل إن أولى الممارسات الخاصة بمقاومة الاحتكار كشفت قصورا وعوارا في القوانين والتشريعات الخاصة بقضية الاحتكار. وبشكل ما فإن قرارا واحدا ناضجا في المكان الصحيح يؤدي إلى حالة من النضج للقانون والمؤسسات. والحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا القرار دون وضعه في سياق قرارات سابقة عليه، فقد كانت المشكلة هي ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت بطريقة تهدد عملية التنمية في مصر. وبالطبع فإن معالجة ارتفاع أسعار أية سلعة لها أكثر من طريقة، وكانت هناك مقترحات عديدة بتدخل الدولة في السوق، وتسعير المنتجات وفقا للسعر «العادل»، وربما دار في ذهن البعض القبض على المنتجين وأصحاب المصانع من أجل تخفيض الأسعار. ولكن مشكلات الرأسمالية لا يحلها إلى المزيد من الرأسمالية أي تعميق المنافسة من خلال طرح رخص جديدة لإنتاج الحديد والأسمنت من ناحية، وإحالة من كان عليهم اتهامات جدية بالسعي نحو الاحتكار إلى النيابة العامة حيث هي في النهاية الجهة المنوط بها تحقيق العدالة. ففي النهاية فإن المكسب الحقيقي من الإجراءات التي قام بها وزير الصناعة هو أولا تقديم تعريف جديد لدور الدولة بحيث لا تكون هي منتجة الأسمنت والحديد، وإنما هي المنظمة والضامنة لسوقه، وهو ثانيا توسيع قاعدة الإنتاج في البلاد بمعنى أن الشكوى من سوق الأسمنت ليس معناه إغلاقها بالضبة والمفتاح وإنما دعمها من خلال منتجين جدد أي زيادة الطاقة الإنتاجية في البلاد مع زيادة تنافسيتها في الوقت نفسه، وهو ثالثا إنضاج القواعد والتشريعات القائمة التي قامت كلها على دولة اشتراكية بيروقراطية مهمتها تدمير السوق أحيانا، وتحقيق احتكار الدولة في كل الأوقات. ولكن كل ذلك ليس كافيا، فالحقيقة التي لم تصل بعد إلى الجمهور العام في مصر هي أن الرأسمالية ليست هي فقط النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي حقق التقدم والنمو والطفرات التكنولوجية في العالم، بل إنه أيضا أكثر النظم التي عرفها التاريخ تحقيقا للعدالة، ومقاومة للفقر، وفي الوقت نفسه تحقيق الغنى. ولكن كل ذلك لا يحدث وحده، أو من خلال فوضى السوق، أو من خلال الاحتكار، وإنما يحدث من خلال المنافسة، والمبادرة الفردية، وحماية الموهبة والإبداع، وكل ذلك هو مهمة الدولة الأساسية. وهي دولة بهذا المعنى ليست دولة ناعمة، أو رخوة، وإنما هي دولة لها أسنان قانونية وتشريعية ومالية تحافظ بها على حقوق المجتمع من خلال الضرائب، وعلى المنتجين من خلال فتح أبواب الإنتاج والاستيراد والتصدير، وعلى المستهلكين من خلال الحفاظ على المنافسة طوال الوقت. لقد حدث ذلك أخيرا، وبقى أن يصل إلى المجتمع والناس . عن صحيفة الوطن القطرية 25/10/2007