دفاعاً عن الذات مصطفى زين تهجير المسيحيين من العراق أحدث ما آلت إليه الأوضاع في بلاد الرافدين. الأكراد ينفون ضلوعهم في العملية، لكنهم يقولون إن مناطق المسيحيين جزء من إقليم كردستان، ولا يمكن أن يهجروهم. تنظيم «القاعدة» ينفي أيضاً، ويؤكد أنه وقّع «عهداً مع زعماء الطائفة بعدم التعرض لها»، إلا إذا خانت العهد وتعاملت مع الحكومة أو مع الاحتلال. تحديد الأكراد لإقليمهم واعتبار المسيحيين جزءاً منه، على من يعيش فيه الخضوع ل «قانون» صاغته أربيل والسليمانية، بعد حرب طويلة بينهما، وتسهر على تطبيقه قوات «البيشمركة»، لا علاقة للمسيحيين به. وقبل ذلك فهم لا يريدون الانضمام إلى كردستان. فرض القانون عليهم تعسف واستبداد في حق أقدم الجماعات العراقية التي ذاقت الأمرّين من عنصرية متخلفة وشوفينية متعالية، وأنظمة حكم مستبدة. شوفينية وصلت الى حدود مطالبة نواب أكراد، بعد سقوط النظام السابق، بنزع الصفة الكردية عن صلاح الدين الأيوبي واستبدال اسم المحافظة التي تحمل اسمه لأن العرب يفخرون به. والواقع أن الحكومة المركزية طرف أساسي في الصراع على المناطق المسيحية، خصوصاً سهل نينوى الذي يطالب الأكراد بضمه إلى إقليمهم. أما فتوى «القاعدة» فتذكر بأكثر العصور الإسلامية تخلفاً واستبداداً واستغلالاً لخوف الأقليات. ليس المسيحيون في العراق من رحب بالاحتلال. ولا هم من سهّل مهمته وساعده في إقامة «دولته»، بل الطائفتان الإسلاميتان الكبيرتان، بالتعاون مع الأكراد، أرستا نظام المحاصصة الطائفية وخاضتا حرباً أهلية ما زالت «القاعدة» تسعى إلى تأجيجها. التقوقع في حمى العرق والطائفة والمذهب واضطهاد الأقليات ليس مقتصراً على العراق. الاستبداد في العالمين العربي والإسلامي يطاول متنوري الأكثرية أيضاً. وظاهرة التكفيريين الذين يعيشون في النص وللنص ولا يعرفون من التاريخ سوى مرحلة يؤولونها كما شاؤوا للمحافظة على الانعزال منتشرة في كل الأصقاع. لا يهمهم من الإسلام سوى الفتوحات. أما ما نتج عنها من تمازج بين الشعوب والحضارات، وما أرسته من اعتراف بالآخر المختلف، كل ذلك لا يعنيهم في شيء. نحن نعيش في زمن العودة الى مفهوم الغزو. زمن النكوص الى كنف القبيلة والطائفة، بعدما تكونت شخصيتنا من حضارات متنوعة. وبعد زمن كانت العروبة فيه فضاء ثقافياً تنتمي إليه شعوب وأعراق مختلفة الديانات والمذاهب. لا حاجة إلى التذكير بأن ما يطلق عليه اسم عصر النهضة، بكتّابه ومفكريه ومناضليه، كان عصر المثقفين المسيحيين العرب بامتياز. وقبل ذلك، لولا الترجمات من السريانية والإغريقية التي اضطلع بها مسيحيون، في العصر العباسي، لما كانت هناك فلسفة عربية إسلامية، ولما كان هناك فلاسفة مسلمون، مثل الكندي وإبن سينا والفارابي وإبن رشد، الذين انتموا إلى الفضاء الثقافي العربي، ومعظمهم ليس عربياً بالولادة. ونذهب إلى أبعد من ذلك فنقول، ربما كانت النهضة الأوروبية تأخرت كثيراً لولا تلك الترجمات لأن اعتمادها على الثقافة العربية كان أساس انطلاقتها. تهجير مسيحيي العراق واضطهادهم في بلدان أخرى جريمة بحق الذات قبل أن يكونا جريمة بحق المسيحيين. عن صحيفة الحياة 14/10/2008