بالرغم مما هو معروف منذ عقود عديدة بالنسبة لتنوع وتعدد الخلافات بين القوى والتيارات والفصائل الفلسطينية، وهو ما يعود الى مرحلة ما قبل قيام اسرائيل عام ،1948 إلا ان حيوية حركة التحرير الفلسطينية تمثلت في قدرتها دوما على التقاء قواها وتياراتها وفصائلها على حدود دنيا محددة ومتوافق عليها فيما بينها في كثير من الاحيان، خاصة عندما تواجه الثورة او القضية الفلسطينية منعطفات حادة او تطورات تفرض عليها لم الشمل والارتفاع على الخلافات. وفي ظل الاوضاع والتطورات، سواء تلك القائمة في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين، او التي تعيشها القضية الفلسطينية على امتداد الفترة الاخيرة، فإنه يمكن القول بأن هذه المرحلة هي من اكثر المراحل خطورة بالنسبة للاوضاع وللقضية الفلسطينية ايضا، لان ما ستسفر عنه هذه المرحلة من شأنه ان يؤثر على مجمل الاوضاع الفلسطينية لسنوات طويلة قادمة . ومن هنا تحظى هذه الفترة، او ينبغي ان تحظى بكثير من الاهتمام والعناية ليس فقط من جانب القوى والفصائل الفلسطينية، ولكن ايضا من جانب كل الاطراف والقوى العربية الحريصة على الشعب الفلسطيني ومصالحه وحقوقه الوطنية الآن وفي المستقبل . وفي هذا الاطار فإن الجهود المبذولة التي تقوم بها مصر الآن من أجل عقد الحوار الفلسطيني وتوسيع نطاقه ليشمل مختلف الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس تعد على جانب كبير من الأهمية في كل مراحلها بدءا من عمليات التحضير الجارية وحتى عقد الحوار خلال الايام القادمة وما يمكن أن يتوصل اليه من نتائج، فضلا عن مدى الالتزام بتلك النتائج وتنفيذها على ارض الواقع. ويمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب من أبرزها ما يلي: اولا: انه بالرغم من تدهور الاوضاع الاقتصادية والمعيشية على نحو ملموس في الاراضي الفلسطينية بوجه عام، خاصة وان الضفة الغربية ليست بأحسن حالا بدرجة كبيرة من قطاع غزة، وذلك بفعل الممارسات الاسرائيلية الممنهجة والمتواصلة، فإن الاشهر الماضية وحتى الآن لم تشهد تحسنا ملموسا في العلاقة بين حركتي فتح وحماس التي تدهورت بشكل حاد بعد استيلاء حركة حماس على قطاع غزة بالقوة المسلحة في يونيو 2007 والسيطرة على مقار حركة فتح والسلطة الفلسطينية في القطاع على نحو يحمل طابع المطاردة والابعاد لحركة فتح وليس مجرد السيطرة على القطاع . ومع الوضع في الاعتبار ما يدعيه هذا الطرف او ذاك من حجج ومبررات لتبرير ما حدث في غزة، وهي مبررات تحمل أحيانا ملامح مراهقة سياسية، ما كانت متوقعة من جانب فصائل فلسطينية ذات ثقل وسنوات غير قليلة من العمل لتحرير الاراضي المحتلة، إلا ان أسباب ذلك ودوافعه وامتداداته ايضا الى خارج الساحة الفلسطينية بات معروفا على نطاق واسع لكل من يريد الوقوف على ابعاد ما جرى ويجري أيضا، ليس فقط على امتداد الساحة الفلسطينية، ولكن ايضا على اتساع رقعة الشرق الاوسط بتفاعلاته وعناصره وقواه، الطامح بعضها الى ادوار جديدة حتى ولو كانت على حساب الجميع بمن فيهم الشعب الفلسطيني ذاته. لم تقتصر مظاهر المراهقة السياسية على مواقف عديدة على جانبي الخلاف الفلسطيني، ولكنها امتدت الى ممارسات إعلامية متدنية، والى تحركات ومناورات شديدة الضرر بالفلسطينيين وبالقضية الفلسطينية ذاتها لمجرد حك الانف لطرف عربي، او لتوهم الاستقواء ضد اشقاء السلاح ممن يشكلون الساق الاخرى التي تقوم وترتكز عليها القضية الفلسطينية، واحيانا تصور امتلاك الحقيقة والفضيلة واحتكار المسؤولية الكلية حيال قضية شعب ناضلت اجياله على امتداد اكثر من ستين عاما مضت، في حيث لم يمض على بعض هؤلاء سوى بضع سنوات ، كان يمكن ان تكون اكثر ايجابية وفائدة للشعب الفلسطيني وقضيته لولا الانجرار في حسابات اكبر بكثير وأوسع من قدرتهم على النظر.
وبعيدا عن إلقاء الاتهام على طرف فلسطيني دون غيره، ومع تقدير كل الظروف التي مرت بها وتمر بها القيادات الفلسطينية بكل ألوانها وتوجهاتها لاسباب معروفة، إلا انه كان من المأمول ان تكون القيادات الفلسطينية بعد مرحلة ياسر عرفات اكثر قدرة على الاستفادة بما انجزته وتركته حركة النضال الفلسطيني من خبرات وتجارب ودروس، بعيدا عن استسهال القفز في قطار الصراعات او المنافسات الاقليمية، خاصة وانها - اي تلك القيادات - لن تستطيع - حتى اذا ارادت - ان تترجل من هذا القطار عندما تريد لانها ببساطة مجرد راكب يمكن ان يحسب لصالح هذا الجانب او ذاك بغض النظر عن اية مظاهر او تلفح بالكوفية الفلسطينية من جانب هذا الطرف الاقليمي او ذاك. نعم قد يقول قائل ان الفصائل الفلسطينية طالما اختلفت مع بعضها البعض على امتداد العقود الماضية، وانها كانت قادرة على الالتقاء مرة اخرى عندما تلتقي الاطراف العربية معا. ولكن المشكلة هذه المرة ان الخلافات بين فتح وحماس لم تعد محصورة في النطاق العربي فقط - كما كانت من قبل - ولكنها امتدت الى دائرة يسعى بعض لاعبيها الى الخروج بالقضية الفلسطينية بشكل او بآخر عن دائرتها العربية، اما بحجة الفشل العربي او بحجة الحق الاسلامي او حتى حق الجوار. ويجسد ذلك الى حد كبير المواقف التي عبرت عنها احيانا الجمهورية الاسلامية الإيرانية ليس فقط حيال القضية الفلسطينية، ولكن ايضا حيال عدة قضايا عربية اخرى، ودون ان يؤثر ذلك بالطبع على أولوية المصالح الوطنية الإيرانية في كل الاحوال، وهو امر طبيعي بالنسبة لكل لاعبي السياسة بمستوياتها الوطنية و الاقليمية والدولية كذلك .
وبالنظر الى الضعف النسبي لمواقف الفصائل والقوى الفلسطينية، فانها أصبحت بوجه عام اقل استقلالية وأضعف قدرة على ادارة مواقفها بعيدا عن القوى التي ترتبط بها مصلحيا وسياسيا على نحو او آخر وهو ما فتح المجال بشكل اكبر لتأثير متزايد للاطراف غير الفلسطينية فيما يتصل بتطورات القضية .
ثانيا: انه في ظل تعدد مستويات وأبعاد التأثيرات العربية والاقليمية وحساباتها بالنسبة للقضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية العربية والتي ترتبط بها اوضاع المنطقة بدرجة كبيرة، فإنه لم يكن مصادفة ان تطرح حماس وفتح قضايا خلافية جديدة، مثل استمرار الاعتقالات المتبادلة لانصار الحركتين، والوضع القانوني للرئيس الفلسطيني بعد 9 يناير المقبل، والانتخابات العامة والرئاسية المتزامنة، وضرورة العودة عن انقلاب حماس في غزة، وما يتصل باحتمال الاستعانة بقوات عربية او دولية في غزة، وغير ذلك من القضايا التي تثير مزيدا من الشد والجذب على الساحة الفلسطينية وتبدد على نحو او آخر فرص التقريب بين المواقف.
ولعل ما يلفت الانتباه هو ان طرح قضايا خلافية جديدة بين حماس وفتح خلال الايام الاخيرة جاء من جانب قيادات كبيرة في حركة حماس ومنهم خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس واسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة والدكتور محمود الزهار وغيرهم. ولان تلك التصريحات امتدت الى الحوار الفلسطيني الذي يجري الاعداد له بشكل مباشر وبلهجة تحذيرية، فإنه لم يكن غريبا ان يتصور البعض ان حركة حماس تريد ان تصادر على الحوار قبل ان يبدأ، بل أن بعض مسؤوليها يتحدثون عن الشرعية والقانون الاساسي الفلسطيني واحترامه بالرغم من ان الوضع الذي تمارسه هي في غزة على امتداد نحو 16 شهرا يثير الكثير من علامات الاستفهام حول الشرعية. غير ان ما قد يهون ولو قليلا من ذلك كله ان تلك المواقف والتصريحات تأتي في إطار الصراع او المنافسة السياسية بين الحركتين اللدودتين واللتين تمثلان ساقي القضية الفلسطينية على الاقل في هذه المرحلة الحرجة.
وبالرغم مما تثيره التصريحات المشار اليها والملابسات المحيطة بها من مخاوف حيال فرص النجاح امام الحوار الذي لم يبدأ في صيغته الشاملة بعد، إلا ان التصريحات التي صدرت عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وزيارة وفد من بعض نواب ومسؤولي حماس في الضفة الغربية للرئيس الفلسطيني - حتى ولو للتهنئة بالعيد - تقلل ولو نسبيا من القلق حيال فرص النجاح، وتظل المراهنة قائمة ايضا على ان القيادات الفاعلة في كل من حركتي حماس وفتح ستتمكن في النهاية من الدفع نحو الوفاق الفلسطيني بشكل أكبر وبما يتجاوب مع المصالح الوطنية الفلسطينية في هذه الفترة بغض النظر عن اية حسابات اخرى لهذا الطرف الاقليمي او ذاك، خاصة وان تبعات فشل الحوار قد تتجاوز قدرة اي طرف فلسطيني على احتمالها.
ثالثا: انه بالرغم من ان القاهرة استضافت من قبل جلسات الحوار الفلسطيني، والتي عقدت كذلك في مكة وصنعاء وحتى داكار - على مستوى حركتي فتح وحماس - الا انه من المأمول ان تنجح عمليات الاعداد المكثفة والطويلة ايضا للحوار الفلسطيني هذه المرة. ولعل ما يعزز هذا الامل عنصران أساسيان:
اولهما ان الحوار يأتي في ظل ظروف فلسطينية واقليمية ودولية حرجة، تقل فيها - خاصة خلال الفترة القادمة - فرص الاهتمام بالقضية الفلسطينية لأسباب عديدة. يضاف الى ذلك ان الحوار هذه المرة يستهدف التوصل الى توافق فلسطيني واسع يشمل مختلف الفصائل الفلسطينية وليس فتح وحماس فقط، وهو ما يمكن ان يشكل طوق نجاة آخر لانجاح الحوار، ولعل هذا يفسر الفترة الزمنية الطويلة للتحضير للحوار ولاستطلاع آراء كل الفصائل واعداد ورقة عمل تسهل التوصل الى توافق فلسطيني حول الثوابت الفلسطينية وبما يشكل خروجا سلسا من المأزق الراهن. ولعل الانفراج النسبي في الاوضاع والعلاقات الاقليمية في الآونة الاخيرة تسهم في تسهيل التوصل الى النتيجة المتوخاة.
أما العنصر الثاني فإنه يتمثل في ان القاهرة التي تتولى الاعداد للحوار وإدارته حرصت في الواقع على تأمين سبل النجاح أمامه. سواء من خلال التنسيق مع الاطراف العربية المعنية الاخرى - الاتصالات المصرية مع القيادات العربية الاخرى وزيارة الرئيس اليمني الخاصة للقاهرة - او من خلال ترك مساحة لاشراك جامعة الدول العربية في العمل لضمان تنفيذ النتائج التي سيتم التوصل اليها في الحوار الفلسطيني. واذا كان هذا العنصر يغلق الطريق أمام مناورات التلويح بنقل الحوار، فإنه يسمح ايضا بالعودة الى ما طرح خلال الاجتماع الاخير لمجلس جامعة الدول العربية الشهر الماضي حول ضمانات تنفيذ ما سيتم التوصل اليه من نتائج وآلية محاسبة الطرف او الاطراف الفلسطينية التي لا تفي بتعهداتها او التزاماتها.
على اية حال فإن حوار القاهرة يشكل مفترق طرق حاسم يؤثر بالضرورة على الشعب الفلسطيني وقضيته لبضع سنوات قادمة، ولذا فإنه برغم أهمية ما سبق الاشارة اليه من عوامل باعثة على الامل، إلا ان توفر ارادة الاتفاق بين فتح وحماس تعد مسألة ضرورية حتى يمكن التوصل الى توافق للخروج من المأزق . لان عدم توفر هذه الارادة بشكل كاف من شأنه عرقلة الحوار او إثارة مشكلات أمامه، وما أسهل التفجيرات والاغتيالات والتصريحات العنترية التي تضر الفلسطينيين انفسهم اكثر مما تفيدهم.