مساعي تهدئة (الدب الروسي): هل تنجح؟ د. أسعد عبد الرحمن تظهر الولاياتالمتحدة الأميركية على المسرح العالمي الآن باعتبارها أقوى دولة عسكرية في العالم. كما أنها - رغم الصعوبات الاقتصادية الراهنة -تمتلك اقتصادا قويا، وتحوز المبادرة في مجالات القوة المعرفية والتفوق التكنولوجي. ومنذ أحداث سبتمبر 2001، صاغت الولاياتالمتحدة استراتيجية جديدة، من عناصر عدة، لخصتها مؤسسة ''راند'' (''العقل الاستراتيجي الأميركي'') وكتبها مجموعة باحثين استراتيجيين أميركيين، قوامها توصيات لوزارة الدفاع الأميركية بالابقاء على أحادية القطب الأمريكي إلى الأبد، ومنع أي منافس محتمل حتى ولو باستخدام القوة المسلحة. لكن إلى متى تستطيع الولاياتالمتحدة الاستمرار في ذلك؟ يقول بعض الباحثين إن هذه الأحادية القطبية ستكون مؤقتة وقصيرة. ويرى آخرون أن الولاياتالمتحدة تمتلك من القوة ما يمكنها من السيطرة على العالم لعدة عقود مقبلة. أما الفريق الثالث فمن القائلين أن عالم القوة الخارقة الواحدة لن يدوم، فروسيا ميدفيديف/ بوتين لملمت نفسها وها هي تعود إلى الساحة الدولية من جديد، إضافة إلى أن الصين (مليار ونصف المليار نسمة) ستكون خلال العقدين القادمين صاحبة اقتصاد قوي ومتطور وتتمتع بنظام سياسي وسلطة مستقرة، وبالتالي ستسعى للاهتمام بمصالحها الاقليمية والعالمية. حقا، تضع الولاياتالمتحدة العالم كله أمام اختيار صعب: إما نظام عالمي جديد تنفرد بالسيطرة عليه، وإما التسبب بفوضى عالمية!! وهذه الإشكالية هي موضوع كتاب ''الاختبار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم'' للمفكر الاستراتيجي زبغينيو بريجنسكي حيث يدعو إلى ''التفويض التدريجي للقوة'' بحيث يبرز ''مجتمع عالمي ذو مصالح مشتركة''، معتبرا أن ''التحدي الرئيسي للقوة الأميركية لا يمكن أن ينبع إلا من داخل أميركا بسبب سوء استخدام أميركا لقوتها''. ورغم ذلك، فإنه في 2004، خرق جورج بوش ''الابن'' اتفاق ''بوش الوالد'' مع الرئيس الروسي بوريس يلتسين حين تعهد ''الوالد'' بأن توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) سوف يتوقف عند دول أوروبا الشرقية التي تم إلحاقها بالكتلة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية (هنغاريا وجمهورية التشيك وبولندا). ولاحقا، انضم للحلف كل من بلغاريا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا وأستونيا، ثم تكاثرت الوعود الأمريكية لجورجيا وأوكرانيا بالانضمام للحلف!! ولادراك الولايات الخطر من استعادة روسيا لقوتها، ابتدعت مشروع نشر الصواريخ في الدول المحيطة بها، فبات (مع الانضمامات السابقة للأطلسي) وكأنه حصار استراتيجي لروسيا الحديثة. لقد ظنت الولاياتالمتحدة أن خطتها في التسلل إلى الدول المحيطة بروسيا (والتي كانت تدور من قبل في فلك الاتحاد السوفياتي) نجحت تماما! غير أن أحداث جورجيا الأخيرة أثبتت فشل تلك الخطة. فالرد الروسي أعلن صراحة عن عودة روسيا إلى ممارسة سياسة الردع العسكري العنيف التي كانت تخلت عنها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. حينئذ، تبين العجز الأمريكي الذي اكتفى بتصريحات وتحذيرات سياسية قوية لروسيا، كاشفا عن حدود القوة الأميركية، وعن بروز جديد للقوة الروسية. فالتدخل الروسي العسكري الشامل في جورجيا شكل علامة على أن استفراد الولاياتالمتحدة بالعالم قد يوشك على الانتهاء، وأننا بصدد عملية تدريجية ربما تعيد التوازن للنظام الدولي ليس بالضرورة على شكل ''الحرب الباردة'' وإنما كنوع من ''تحديث التوازن'' في النظام الدولي المبشر بالانحسار التدريجي للهيمنة الأميركية بعدما عادت روسيا إلى صدارة المشهد الدولي. طبعا، ذلك لا يعني أن تصمت واشنطن على ما نجحت في تنفيذه روسيا في منطقة القوقاز بل ستعمل فوراً على إعادة تنظيم قواها وحلفائها لمنع روسيا من توسيع مكاسبها. إن ما أغضب الولاياتالمتحدة وأجبر ''الاتحاد الأوروبي'' على اتخاذ مواقف مغايرة للموقف الأمريكي، كون سيناريو الحرب كلاسيكيا. فروسيا، دفاعا عن مصالحها القومية، قامت بعمليتها العسكرية في جورجيا. ورغم اقتناع ''الاتحاد'' بضعف إمكانية نشوب مواجهة عسكرية بين روسيا والغرب، فإن تزايد عدد القطع الحربية (الأمريكية على مقربة من الأسطول الروسي) المنتشرة في البحر الأسود يبقي الاحتمال قائماً، وبخاصة لصغر حجم منطقة الاحتشاد. ولعل لهجة التصريحات السياسية الأوروبية، التي انخفضت حدتها ضد روسيا، تدل على أن الدول الأوروبية تدرك خطورة الموقف وتحاول تهدئة الأوضاع لتفادي المواجهة المحلية (ناهيك عن تلك المدمرة عالميا) وحصر البحث عن حل للأزمة في الحوار السياسي، بعيدا عن الآلة العسكرية لكن مع الاحتفاظ بها كأداة ضغط- خلال المحادثات مع روسيا. من هنا جاء الاتفاق بين الرئيسين الروسي ميدفيديف والفرنسي ساركوزي القاضي بسحب قوات روسيا (ولو على نحو ملتبس) مع بدء محادثات أمنية دولية حول الإقليمين يوم 15/10/2008 في جنيف. فهل يصمد هذا الاتفاق؟ عن صحيفة الرأي الاردنية 21/9/2008