ملاحظات أولية حول مؤتمر الخريف! د. عبد المنعم سعيد في يوم16 يوليو الماضي اقترح الرئيس الأمريكي جورج بوش خطة لتطبيق رؤيته لحل الصراع العربي الإسرائيلي; وهي الرؤية التي كان قد أعلنها في24 يونيو2002 وتقوم علي إنشاء دولتين ديمقراطيتين إسرائيل وفلسطين تعيشان جنبا إلي جنب في سلام وأمن. ولكي يتحقق هذا الهدف أعلن بوش أنه بعد التشاور مع أعضاء اللجنة الرباعية, أي روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة, فإن الولاياتالمتحدة سوف تتخذ مجموعة من الخطوات لتقوية قوي الاعتدال والسلام في الشعب الفلسطيني. وتشمل هذه الخطوات تقوية الحالة المالية للسلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس; ودعم الالتزام السياسي والدبلوماسي لرسم أفق سياسي للدولة الفلسطينية, والمساعدة في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقبلية. ومن الناحية العملية, تعد هذه الخطوات جزءا من عملية سياسية أوسع من أجل حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بطريقة تضمن أمن إسرائيل, وحيوية وترابط الدولة الفلسطينية. هذا الحل, والكلام لا يزال لبوش, لابد أن يؤدي إلي تسوية جغرافية تقوم علي حدود متفق عليها تعكس الخطوط السابقة أي قبل عام1967 والتعديلات التي تستجيب للحقائق الحالية. ويتم إطلاق هذه العملية من خلال عقد اجتماع دولي هذا الخريف يجمع ممثلين للدول التي تؤيد حل الدولتين, وترفض العنف, وتعترف بحق إسرائيل في الوجود, وتلتزم بالاتفاقات السابقة بين الأطراف. ويحضر الاجتماع إسرائيل والفلسطينيون وجيرانهم في المنطقة, وتديره كوندواليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية. مثل هذه الخطوة تعد جديدة بالنسبة لسياسة إدارة جورج بوش حيث كانت تنتقد الإدارة السابقة عليها للرئيس بيل كلينتون الذي استغرقته دون طائل عملية السلام العربية الإسرائيلية; والآن فإن الرئيس الأمريكي يعود مجددا لكي يضع استثمارات أمريكية سياسية كبيرة في عملية غير مضمونة النتائج. ومن ناحية أخري فإن المقترح المعروض من قبل الرئيس الأمريكي, علي الأطراف المعنية يتضمن عقد اجتماع دولي; بينما كان هو ذاته الذي انتقد أسلوب المؤتمرات الشاملة علي غرار مؤتمر كامب ديفيد في صيف عام2000. وأخيرا, فإن المبادرة والاجتماع الدولي يعدان تطبيقا لتوصيات تقرير بيكر هاملتون الخاصة باستراتيجية الخروج من العراق, التي انتقدها جورج بوش, في وقت يزداد فيه التوتر بين إيرانوالولاياتالمتحدة فيما يتعلق بقدرات إيران النووية. هذا الاقتراح الأمريكي لقي معارضة هائلة من أطراف شتي, فالمحبون للتسوية العربية الإسرائيلية خافوا كثيرا من فشل المؤتمر وعواقبه, وتذكروا ما جري بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد السابق في صيف عام2000 من انتفاضة واجتياح عسكري وفترات عنف طويلة. والكارهون للتسوية وجدوها فرصة للإعلان عن مواقفهم من كل قضايا الصراع وعلي رأسها قضية اللاجئين, مؤكدين ضرورة حلها حتي قبل أن تبدأ المفاوضات. ولأول مرة منذ فترة طويلة التقي عرب وإسرائيليون علي أن أطراف المؤتمر الرئيسية فضلا عن اتساع الشقة بينهم في القضايا الجوهرية غير جاهزين للتفاوض الجدي حولها. فمحمود عباس لا يستطيع الكثير وبلاده جري تقسيمها بين الضفة الغربية وقطاع غزة, وبين معتدلين راديكاليين, وبين من يريدون تسوية علي أساس حدود1967, ومن لا يقبلون بأقل من أرض فلسطين التاريخية. أما إيهود أولمرت وحزبه كاديما فقد ضعفت قواهم, والتأييد الشعبي لهم منذ فشلوا في نظرية الانسحاب الأحادي الجانب من غزة, واهتزت الثقة فيهم بعد الجزء الأول من تقرير لجنة فينوجراد, وبين هذا وذاك لم يعد قادرا لا علي اتفاق, ولا علي تنفيذه. وأخيرا فإن عاقد الاجتماع الدولي جورج بوش أصبح مثل الأسد المثخن بالجراح, ومنذ انتخابات التجديد النصفي للكونجرس وانتهاء أغلبية الجمهوريين, ظهر أن الشعب الأمريكي أصبح مستعدا ليس فقط لتغيير في القيادات بل في السياسات أيضا. في العالم العربي خاصة كان الهجوم كاسحا علي فكرة عقد الاجتماع, وفي البداية كان جوهر النقد أنه لا يمكن الوثوق في جدية الولاياتالمتحدة, وأن خطاب بوش المشار إليه ليس إلا مناورة رخيصة للالتفاف علي الوضع الأمريكي في العراق, والتحضير للهجوم علي إيران. وبعد أن ظهرت جدية الدعوة, وأن الاجتماع علي الأرجح سوف ينعقد بدأ البحث فورا عن أبواب الخديعة التي سوف يحققها, والتغطية التي يرغب فيها لأوضاع أمريكية مزرية سواء في العراق أو أفغانستان أو مصداقية في العالم كله. ولكن المشكلة الكبري في الهجوم العربي الإعلامي أنه قام علي فرضية أن المؤتمر هو تحرك دبلوماسي أمريكي ينبغي افشاله, نظرا لأن أمريكا لا يأتي منها خير كثير, أو لطبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية; ومن ثم فإنها عملية سلام تخص الأمريكيين أكثر مما تخص العرب. هذا الوضع بالنسبة لمصر تحديدا لا يناسب مقتضي الحال والمصالح المصرية المباشرة التي ينبغي النظر إليها وفحصها قبل النظر في المؤتمر سلبا وإيجابا. فخلال السنوات الماضية لم تكف مصر لحظة واحدة عن مطالبة العالم كله, والولاياتالمتحدة خاصة بضرورة التحرك من أجل حل القضية الفلسطينية وإقامة السلام في الشرق الأوسط. هذا الاجتماع المزمع عقده هو الترجمة العملية لهذه الرغبة, والإلحاح المصري والعربي, خاصة أنه يلقي رضاء الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدةوروسيا, أي باختصار القوي الرئيسية في العالم. ومن الطبيعي في هذه الحالات أن تدعو الولاياتالمتحدة لعقد اجتماع يتفق مع مصالحها, فمن ناحية يعد ذلك من طبائع العلاقات الدولية, ومن ناحية أخري فإنه لا يوجد ما يمنعنا نحن أيضا من البحث أيضا عن مصالحنا, والنظر فيما تلتقي فيه مع واشنطن وتختلف. ولكن المدهش في الموضوع أننا غالبا ما ننظر لمصالح الآخرين باعتبارها مناقضة لمصالحنا بالضرورة, كما أننا علي الأغلب يندر أن نحدد مصالحنا بوضوح كامل في كل تحرك دبلوماسي. ومع احترامي الكامل للعلاقات التاريخية والأزلية والعربية والقومية بين الشعبين المصري والفلسطيني, وكلها تدفعنا نحو العمل علي حل القضية الفلسطينية; فإن في الأمر مصالح مصرية خالصة نحتاج لوضعها في الصدارة. وبصراحة كاملة فإن الأمن القومي المصري قد بات مهددا من استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي نتيجة الانقسام الجاري في فلسطين الذي أدي إلي انفصال حماس بقطاع غزة تحت قيادة راديكالية لم تتوقف قط عن تنقيب الحدود المصرية الفلسطينية بالانفاق التي من خلالها يتم ليس فقط تهريب السلاح والبشر في الاتجاهين, وإنما الأفكار أيضا التي من بينها تخريب بل وتدمير اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية, ومن ثم دفع مصر دفعا إلي مواجهات وصراعات لم تختر يوما لا مكانها ولا توقيتها. والعجيب أن ذلك لم يسبب قلقا يذكر لبعض قوي المعارضة الداخلية في مصر ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين التي تبنت أخيرا في برنامجها السياسي تحرير فلسطين التاريخية, أي ببساطة تدمير دولة إسرائيل التي تعاهدنا معها علي السلام. وبالطبع فإنه من حق القوي السياسية المصرية أن تعتقد ما تشاء, كما أنه من حقها, بل من واجبها, أن تنظر بكثير من الشك للنيات الإسرائيلية إزاء مصر خاصة ما يتعلق بالقدرات النووية الإسرائيلية. ولكن السؤال الذي علي جميع القوي السياسية أن تجيب عنه هو: هل يحقق تخريب معاهدة السلام المصالح المصرية أم لا, سواء عن طريق اتفاق حماس من الخارج, أو برامج الإخوان المسلمين من الداخل؟ وهل يمكن وضع سقف علي السلاح النووي الإسرائيلي أو إزالته في منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في ظل السلام أم في ظل الحرب واستمرار الصراع؟. وإذا كان استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعرض الأمن المصري للخطر بشكل مباشر ومتعمد, فإنه في الوقت نفسه يعرض خطط التنمية المصرية الراهنة لأخطار بالغة. فليس سرا علي أحد أن تحقيق مصر معدلات النمو الحالية 7% جاءت نتيجة إصلاحات داخلية أدت إلي زيادة فائقة في السياحة, وتدفق غير مسبوق للاستثمارات الأجنبية; وكلاهما له حساسية فائقة لأوضاع الأمن والاستقرار في المنطقة. وبصراحة ; فإن جزءا من هذا التدفق كان راجعا إلي أن مصر كانت بالفعل بلدا للأمن مقارنة ببقية دول الشرق الأوسط, وصدق أو لا تصدق لأنها الدولة التي جعلت السلام قضيتها خلال العقود الماضية. والقضية الآن ليست حول ما حققته مصر, ولكن ما تستطيع تحقيقه إذا ما تم مد السلام المصري الإسرائيلي إلي بقية المنطقة, فقامت الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية, وتم الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان. معني ذلك أن اجتماع الخريف ينبغي ألا يكون قضية أمريكية محضة لأنه في الأساس قضية عربية ومصرية, ليس فقط لأن أرضا عربية لا تزال محتلة منذ عقود طويلة, وليس فقط لأن الأحوال الفلسطينية تتدهور مع الزمن ولا تتحسن, وليس فقط لأن ذلك قد يقف عقبة في وجه التنمية المصرية, وليس فقط لأن استمرار الصراع يفتح الأبواب لأشكال مختلفة من الأصولية والراديكالية, وإنما لأن السلام أيضا يفتح آفاقا هائلة للتقدم في مصر والمنطقة كلها, إذا ما اتخذنا الإجراءات الاقتصادية والسياسية الإصلاحية اللازمة. وهكذا تلتحم الحلقات الكاملة للتقدم والمستقبل المصري مع قضايا السلام والأمن القومي الأساسية التي بدأت مناقشتها منذ أسابيع, وربما آن الأوان لكي نعطيها بعضا من الاهتمام, لأنه في العالم المعاصر لم تعد هناك حوائط عازلة بين الداخل والخارج.. والحديث حول اجتماع الخريف متصل؟!. عن صحيفة الاهرام المصرية 15/10/2007