الوضع الموريتاني الجديد لا يتسع للحزب الحاكم القديم العربي مفضال تتواصل الاستعدادات في موريتانيا لتأسيس حزب سياسي جديد يضم قسماً مهماً من الشخصيات البرلمانية المؤيدة للرئيس سيدي ولد الشيخ عبدالله ولحكومته. وبالإضافة إلى أن الدستور الموريتاني المصادق عليه بواسطة استفتاء شعبي عام في منتصف العام الماضي، لا يتضمن ما يمنع قيام حزب سياسي جديد ذي اختيارات سياسية واضحة تستند إلى البرنامجين الرئاسي والحكومي، فإن الحاجة السياسية للحكومة ماسة إلى وجود كيان تنتظم في إطاره فاعليات سياسية وبرلمانية تؤمن لها المساندة والدعم داخل مجلسي البرلمان. ومعلوم أن جزءاً مهماً من هذه الفاعليات قد انبثق من الانتخابات التشريعية التي عرفتها البلاد في نهاية العام الماضي، وتتوافر له شرعية ديمقراطية، وسبق لمكوناته أن عرفت درجات من التنسيق والتفاعل، وأسهمت بصورة قوية في فوز سيدي الشيخ ولد عبدالله بالمقعد الرئاسي في أبريل/ نيسان الماضي. وعلى الرغم من ذلك فإن الاستعدادات لتأسيس الحزب سالف الذكر، أثارت حفيظة قيادات عدد من الأحزاب السياسية التي لا تزال تنعت بالمعارضة. وعبرت هذه القيادات عن قلقها وتخوفها من تأسيس الحزب الجديد، في تصريحاتها الصحافية وبلاغاتها الحزبية، وأكدت ذلك في لقائها برئيس الجمهورية في الشهر المنصرم. ورأت الأحزاب المذكورة، التي لا تزال تحمل صفة المعارضة، وهي صفة غير دقيقة وغير مطابقة في الوضعية الموريتانية بعد سقوط نظام الرئيس معاوية ولد الطايع، وبعد انتهاء المرحلة الانتقالية التي أعقبت هذا السقوط، أن من شأن قيام الحزب السياسي الجديد أن يعود بموريتانيا إلى الوراء، وأن يكرر تجربة الحزب السابق، “الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي" الذي أسسه ولد الطايع في بداية العقد الماضي، وجعله بمثابة حزب للدولة، ووضع في يده الموارد العمومية، واستند إليه في احتكار كافة السلطات. وإذا كانت الحيطة تفرض نفسها من أجل الحيلولة دون تكرار التجربة السيئة للحزب الجمهوري الذي تم حله من قبل قادته بعد سقوط ولد الطايع في أغسطس/ آب ،2005 وإذا كانت اليقظة مطلوبة من أجل قطع الطريق على تلغيم الحياة الحزبية في بلد يمثل فيه القرب من السلطة عامل جذب واستقطاب غير صحيين، فإن الوضعية الجديدة التي تعيشها موريتانيا من شأنها أن تعيد صياغة المشهد الحزبي في هذه البلاد، ومن شأنها كذلك، أن توفر ضمانات أساسية ضد عودة “حزب الدولة" الذي يمثل عودة مقنعة للحزب الوحيد. ويبدو أن المتخوفين من قيام الحزب الموريتاني الجديد لا يميزون بين الوضع السابق لأغسطس/ آب 2005 والوضع ما بعد هذا التاريخ. والحقيقة أن الأمور تغيرت بعد سقوط نظام الرئيس معاوية ولد الطايع، وأصبح من الصعب، حتى خلال المرحلة الانتقالية التي دامت عاماً ونصف العام بعد السقوط المذكور، الحديث عن أحزاب المعارضة. ولقد انخرطت هذه الأحزاب في دعم مختلف المحطات التي مرت منها تلك المرحلة، وصوتت لمصلحة الدستور والقوانين الانتخابية، واعترفت بنزاهة الانتخابات التشريعية والمحلية. ولم تختلف البرامج التي تقدم بها قادة “أحزاب المعارضة" في السباق الرئاسي الذي جرى في بداية الربيع الماضي، عن البرامج التي تقدم بها المشاركون في السباق المذكور من خارج تلك الأحزاب، ومن هؤلاء سيدي ولد الشيخ وزين ولد زيدان. وبالإضافة إلى ذلك فإن فوز المرشح المستقل سيدي ولد الشيخ في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ما كان ليتحقق من دون الدعم الذي تلقاه من بعض الأحزاب التي كانت تصنف ضمن المعارضة ومنها على الخصوص حزب التحالف الشعبي التقدمي بقيادة مسعود ولد بولخير. ولقد توصل هذا الأخير إلى اتفاق سياسي مع المرشح سالف الذكر، كسب بموجبه رئاسة الجمعية الوطنية والمشاركة بأربعة وزراء في الحكومة المدنية التي تشكلت بعد انتهاء الانتخابات. ولتأكيد انتقال موريتانيا إلى وضعية جديدة لم يعد من الملائم فيها اعتماد التصنيف القديم للأحزاب، تجدر الإشارة إلى تصويت مختلف الأحزاب والتيارات السياسية الممثلة في الجمعية الوطنية لمصلحة بولخير رئيساً لهذه الأخيرة. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن “التحالف الشعبي التقدمي" الذي يناهض تأسيس حزب مساند للرئيس وللحكومة لم يتردد، في بيان مجلسه الوطني الأخير، في دعم قرارات الحكومة في مجال تجريم ممارسة الرق، وفي مجال تنظيم عودة الزنوج الموريتانيين المهجرين، وفي مجال تعزيز الديمقراطية وتوسيع دائرة الحريات. وبالنظر إلى الوضعية الجديدة التي تعيشها موريتانيا، فإن ما يمكن أن يكون غريباً هو أن يستمر المشهد الحزبي على ما كان عليه في عهد ولد الطايع، وأن تستمر التصنيفات التي تجاوزها الواقع السياسي. أما آفاق التطور الطبيعي فلا بد لها أن تنفتح على تغيير الاصطافات القديمة، وعلى فرز جديد تنشأ بموجبه تحالفات جديدة وتنظيمات جديدة. وأما الذين يبحثون عن الضمانات التي من شأنها أن تمنع تحول الحزب الجديد المساند الرئيس والحكومة إلى “حزب دولة" يستغل الموارد العمومية، ويفرغ الأحزاب الأخرى من أعضائها وكوادرها، فإنهم سيجدون هذه الضمانات في مدى التزاماتهم بالديمقراطية في التعاطي مع قواعدهم، وفي مدى الارتباط بناخبيهم والانغراس وسط جماهيرهم. وسيجد الباحثون عن تلك الضمانات ما يعزز موقفهم في النصوص الدستورية والقانونية التي تضبط تداول السلطة، وتنظم نشاط الأحزاب السياسية. وتمثل هذه النصوص التي تم إقرارها خلال المرحلة الانتقالية الماضية مكسباً موريتانياً بالغ الأهمية. وسيجد الباحثون عن الضمانات سالفة الذكر ما يشد أزرهم في ما عرفته الوضعية الموريتانية من تحسن ملموس يشهد به معظم الفاعلين السياسيين الموريتانيين، ويسجله جل المراقبين الموضوعيين. ولعل أهم ما يمثل هذا التحسن الملموس هو بروز مؤشرات جدية إلى التزام الرئيس والحكومة الموريتانية بتنفيذ برامجهما والوفاء بوعودهما. ومن هذه المؤشرات التجرؤ على معالجة معضلة المهجرين من الزنوج الموريتانيين، وعلى محاربة بقايا الرق، والتمسك باعتماد الحوار والتشاور مع مختلف القوى السياسية بما فيها تلك التي كانت تتحدث عن “تحرير أفارقة موريتانيا". وتقدم الممارسة الصحافية في موريتانيا وما تعرفه من تحرر وتعدد على صعيد الوكالة الرسمية والإذاعة والتلفزيون العموميين، وما تعرفه الصحافة المكتوبة كذلك من جرأة تصل حد التجاوز والانزلاق أحياناً، تقدم هذه الممارسة دليلاً على التحسن الملموس المشار إليه، وتبين أن الوضعية الموريتانية الجديدة لا تيسر مأمورية إحياء “حزب الدولة". عن صحيفة الخليح الاماراتية 14/10/2007