تعلمنا ونحن في الصغر أن من أراد تعلم السباحة عليه أن ينزل إلى البحر حتى يواجه الموج، ويواجه خطر الغرق، لأن في ذلك أكبر محفز لكوامن إرادة الحياة ضد الغرق وضد الموت، ولو مكثنا في حجرة الدرس نتكلم عن فنون السباحة دهرًا دون خوض التجربة فلن نتعلم كيف نواجه البحر، بل لن نتعلم كيف نوقظ في أنفسنا معنى إرادة الحياة!!.
إن التجارب الكاملة بكل ما فيها من آلام ومتاعب هي التي تصنع الرجل، لأن الحياة مبنية على التعب والمشقة، ولن تستثنى الحياة من مشقتها أحد، لكن للكَبَد أصناف وأشكال، وكل على قدر حظه ونصيبه، والرجل هو من يواجه الحياة، لا أن يهرب منها في كهف العزلة وشرنقة الوٍحدة، ثم يعلق فشله وقلة حيلته على شماعة الظروف وعلى صعوبة الحياة، كما قال الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا.
إن ميدان الحياة هو الفيصل بين إنسان وإنسان، ولن تأتى الحياة راكعة تحت قدمي إنسان كسول عاجز يبحث عن مبرر لعجزه وفشله أكثر مما يبحث عن سبب يحرك به نفسه على درب الحياة الوعر الذي لا يعرف سوى المتحركين الذين يبحثون لأنفسهم عن مكان تحت الشمس، ولا يخلد إلا ذكر المبدعين الذين أجهدوا عقولهم وأبدانهم من أجل تقديم الجديد إلى الناس.
أخطر ما يواجه المرء في حياته هو الاستسلام عند أو سقطة، أو عند أول عثرة، رغم أن السقوط والنهوض سُنَّة في حياة البشر، فمن أنكرها أنكر لازمة في حياته لا تغادره ولا يغادرها، ولو اتخذ لنفسه برجاً مشيداً على قمة جبل، لكن لو أدرك الحكمة من وراء العثرة لتعلم كيف لا يقع في المرة القادمة، لتعلم كيف يعالج أخطاءه.
إن قائداً تعلم من نملة كيف يتنصر على أعدائه، من بعد ما كاد اليأس أن يتمكن من نفسه، فرأى نملة تحمل طعاماً تحاول أن تصعد به شجرة، فتسقط، ثم تحاول فتسقط، ثم تحاول فتسقط، عشر مرات حتى نجحت وصعدت، فتعلم منها شرف المحاولة، فانتفض من يأسه وحقق النصر على عدوه.
إن الحياة تضع إرادة الإنسان، وهو يمضى على طريقها الوعر صوب أهداف وغاياته، تحت امتحانات واختبارات متعددة ومتنوعة، كي تختبر قدرته على التحمل والصبر والإصرار ومواصلة السير بلا تردد ولا توجس، ومن ثم فليس في مقدرة أي إنسان عبور هذه الامتحانات واجتياز هذه الاختبارات، فمن الناس من يسقط عند الحاجز الأول، ومنهم من يسقط عند الحاجز الثاني، ومنهم من يسقط عند الحاجز الثالث، وهكذا، لكن أصحاب الهمم القوية والعزائم الفتية هم من يعبرون الحاجز تلو الأخر، وكلما عبروا حاجزا زادت همتهم ورغبتهم في عبور المزيد، وأولئك هم أصحاب الانجازات والبصمات الواضحة في حياة البشر، وأولئك هم من ضربوا أروع الأمثلة في جعل نقاط الضعف قواعد انطلاق وتحليق نحو العلو والتمكن والقوة، وأولئك هم من جعلوا من لحظات الانكسار أدوات للنهوض والمواصلة والاستمرار.
إن الجامعات تخرج لنا كل يوم آلافاً من المتعلمين، لكنها لم تستطع أن تخرج لنا كل يوم مثقف واحد يعي كيف يتعامل مع مفردات الحياة، لأن الأمر ببساطة لا يتعلق بشهادة أو برسالة، بل يتخطى هذا المفهوم الضيق إلى فهم المعنى الحقيقي للثقافة بمعناها الواسع الشامل الذي يتناول كل مناحي الحياة، وهذا ما لا تستطيع أي جامعة أن تحققه، وهنا فلا إنكار دور العلم، ولكن إقرار بأن العلم ذاته جاء وليداً للتجربة، ولولا التجربة ما علم البشر شيئاً عن قوانين الحركة والجاذبية، وما تأسس عليها من نظريات.
إن ثقافة الحياة بناء ضخم وشاهق لا يُبنى عبر يوم وليلة، لأن الحياة حينما تلتقط الإنسان من عند نقطة البداية وتلقنه كل يوم درساً من دروسها، وإن اختلفت هذه الدروس في مدى رقتها أو قسوتها، فإن ذلك يستغرق زمناً طويلاً، بل ربما يموت الإنسان وهو يدرك إلا اليسير عن لوغاريتمات الحياة، فيأتي من هم على شاكلته ليكملوا السير على الطريق، لكن يبقى أن الحياة تمسك بمعول من فولاذ تحفر به في فكر وعقل وضمير طلابها كل يوم درسا، و لذا نرى أن خريج جامعة الحياة أكثر فهماً للغة الواقع وأكثر تفاعلاً مع متغيراته ومعطياته وبالتالي يكون أقدر على التأثير فيه وترك بصمة واضحة على صفحته. بقيت كلمة: إن الضربة التي لا تقتل صاحبها توقظه وتبعث في أرجائه إرادة الحياة!!.