خلال 3 أيام.. التفتيش على 1135 منشأة يعمل بها أكثر من 11 ألف عامل    رئيس الوزراء السوداني يشكر الرئيس السيسي على دعم مبادرة «حكومة السودان للسلام»    تدريبات استشفائية ل لاعبي الزمالك الأساسيين في لقاء سموحة    القبض على 10 متهمين باستغلال الأطفال في التسول بالجيزة    أول ظهور ل محمود حميدة بعد مغادرته المستشفى    ما هي حساسية الشتاء؟ وطرق علاجها والوقاية منها بالمنزل    مصر ضد جنوب أفريقيا.. ليفربول يوجه رسالة ل محمد صلاح بعد تأهل الفراعنة    وزير المالية: ندعو الشركات الكورية لزيادة وتنويع أنشطتها الاستثمارية في مصر    مزاد علني لبيع محال تجارية ووحدات إدارية بحدائق أكتوبر    وزير العمل يصدر قرارًا بشأن تحديد الأعمال المتقطعة بطبيعتها التي يجوز فيها تواجد العامل أكثر من 10 ساعات ولا يتجاوز 12 ساعة يوميًا    الدولار يحافظ على استقراره أمام الجنيه في البنوك المصرية خلال تعاملات اليوم الجمعة    وزير التعليم العالي يفتتح استوديو جامعة بورسعيد بتكلفة 21 مليون جنيه    اللجنة الطبية العليا والاستغاثات تؤمّن ماراثون زايد الخيري بمنظومة متكاملة واستجابة فورية للطوارئ    مؤتمر جوارديولا: انتصرنا في 7 مباريات متتالية لكننا لسنا في وضع جيد    انطلاق الامتحانات العملية لطلاب برنامج الصيدلة الاكلينيكية بجامعة القاهرة الأهلية    15 ألف جنيه مخالفة تلويث الطريق العام.. العقوبات والغرامات في قانون المرور الجديد    الحكم على رمضان صبحي ومها الصغير والمتهمين بسرقة أسورة أثرية.. أبرز محاكمات الأسبوع المقبل    وزير التعليم العالي يفتتح استوديو جامعة بورسعيد بتكلفة 21 مليون جنيه.. صور    بالصور.. كواليس مسلسل «تحت الحصار» بطولة منة شلبي | رمضان 2026    تصعيد جوي إسرائيلي متواصل.. غارات تمتد من جنوب لبنان إلى الهرمل    رئيس جامعة كفر الشيخ يفتتح المؤتمر السنوي السادس لقسم القلب بكلية الطب    وزارة العدل الأمريكية تكشف عن أكثر من مليون وثيقة مرتبطة بقضية جيفري إبستين وتأجيل الإفراج الكامل يثير جدلاً    ياسر ثابت: تحييد أوكرانيا والعلاقة مع الناتو أبرز عقد التسوية المحتملة للحرب    ضبط مناديَي سيارات لارتكابهما أعمال بلطجة بساحة انتظار بالجيزة    قطع الكهرباء والمياه 5 ساعات في مطاي بسبب الصيانة    محافظة سوهاج: جاهزية 550 مقر انتخابي و586 لجنة فرعية لإجراء انتخابات الإعادة لمجلس النواب ديسمبر 2025    الداخلية تنفي ادعاءات مرشحة بالجيزة    أوقاف الفيوم تفتتح مسجد الرحمة ضمن خطة وزارة الأوقاف لإعمار بيوت الله    الصحة تطلق قافلة طبية بدمياط الجديدة وتقدم خدمات مجانية لأكثر من 1400 مواطن    وزارة الداخلية: ضبط عنصر جنائي بالجيزة تخصص في تزوير الشهادات الجامعية وترويجها عبر مواقع التواصل الاجتماعي    رسميا.. أحمد سامي مديرا فنيا لمودرن سبورت    محافظ الجيزة: انطلاق 36 قافلة طبية علاجية بالمراكز والمدن بدءًا من 2 يناير    إصابة مواطنين إثر انقلاب سيارة ربع نقل على صحراوى جنوب الأقصر    مراسل القاهرة الإخبارية: تفجير مسجد الإمام سبب ذعر المصلين أثناء صلاة الجمعة    عميدة طب بنات الأزهر في حفل تخرج الوافدين: كونوا نبراسًا للرحمة ببلادكم    كوريا الشمالية تعلن خطة لتوسيع إنتاج الصواريخ وتعزيز قدراتها العسكرية في 2026    الصورة الأولى للفنان محمود حميدة بعد مغادرته المستشفى    بعد 25 عاما.. إنعام محمد علي تكشف أسرار اختصار مسلسل أم كلثوم في 4 سهرات    خشوع وسكينه..... ابرز أذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    رئيس وزراء السودان: اللقاءات مع الجانبين المصري والتركي كانت مثمرة    الداخلية تضبط أكثر من 21 طن دقيق مدعم في حملات مكثفة على المخابز    النقل تناشد المواطنين المشاركة لمنع ظاهرة رشق الأطفال للقطارات بالحجارة    اتحاد السلاح يستعين بخبير بولندي لتبادل الخبرات الفنية في سلاح السيف    خطوات هامة لسلامة المرضى وحقوق الأطباء.. تفاصيل اجتماع اللجنة العليا للمسئولية الطبية    خناقة في استوديو "خط أحمر" بسبب كتابة الذهب في قائمة المنقولات الزوجية    القاهرة الإخبارية: غارات مفاجئة على لبنان.. إسرائيل تبرر وتصعيد بلا إنذار    دعاء أول جمعة في شهر رجب.. فرصة لفتح أبواب الرحمة والمغفرة    «شيمي»: التكامل بين مؤسسات الدولة يُسهم في بناء شراكات استراتيجية فعّالة    وزارة الخارجية ووزارة الاتصالات تطلقان خدمة التصديق علي المستندات والوثائق عبر البريد    باكستر: جنوب إفريقيا فرصتها أكبر في الفوز على مصر.. ونجحت في إيقاف صلاح بهذه الطريقة    موعد مباراة المغرب ومالي في أمم أفريقيا 2025.. والقنوات الناقلة    قوات الاحتلال تعتقل فلسطينيين وتغلق بوابات لعرقلة المرور    تحذير رسمي من وزارة الزراعة بشأن اللحوم المتداولة على مواقع التواصل    مدير دار نشر: معرض القاهرة للكتاب لا يزال ظاهرة ثقافية عالمية    مجلس جامعة القاهرة يعتمد ترشيحاته لجائزة النيل.. فاروق حسني للفنون ومحمد صبحي للتقديرية    الكومي: صلاح أنقذ مصر أمام زيمبابوي.. وهدفنا صدارة المجموعة    الإفتاء تحسم الجدل: الاحتفال برأس السنة جائزة شرعًا ولا حرمة فيه    وفاة الزوج أثناء الطلاق الرجعي.. هل للزوجة نصيب في الميراث؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العبرة والتدبير فى وعى النخبة ووعى الجماهير
نشر في الشروق الجديد يوم 10 - 04 - 2011

لا يمر اجتماع حزبى أو ندوة أو لقاء لمناقشة مستقبل مصر دون أن تطرح هذه الأسئلة: كيف نصل بهذه الفكرة للناس؟ كيف يفهمنا الفلاحون فى القرى والمحافظات؟ كيف نوعِّى الجماهير؟ تنطوى هذه الأسئلة على افتراضين أساسيين: أولهما أن السياسيين أو الخبراء أو حتى الجمهور، غالبا هو قاهرى من الطبقة الوسطى المتعلمة، يمتلك وعيا أو علما أو أفكارا لا يمتلكها عموم الناس، وثانيهما أن هذا «الوعى» وكأنه مجرد من المصالح. كأنه نظرية علمية فى الفيزياء أو ما شابه، وبالتالى فهو غير مردود عليه بأفكار أخرى قد تكون «أصح» من وجهة نظر مصالح أخرى. إنما المشكلة هى أن تستوعبه الجموع «غير المؤهلة لذلك»، أو المعرضة لتأثيرات «جاهلة وظلامية وغيبية ومتخلفة».
والحقيقة أن الافتراضين خاطئان، خاصة فى أعقاب ثورة قامت بها هذه الجماهير، دون قيادة من أى من أولئك الذين يمتلكون «الوعى».
ولقد كان «قصور الوعى عند الناس»، و«تدهور التعليم»، و«سيادة الغيبيات»، إلى آخره مبررات أساسية وحججا مركزية فى نظريات أولئك الذين أكدوا لنا بيقين راسخ أن ثورة تونس «لا يمكن أن تتكرر فى مصر». وهاهى الجماهير تثبت بانتفاضتها البطولية بدءا من 25 يناير وحتى الآن تهافت هذه الأفكار.
إن تشكل «الوعى الاجتماعى والسياسى»، أو مجموعة الأفكار التى تنظم علاقة الناس بالدولة والمجتمع يختلف فى حالة الفرد «المثقف السياسى» عنه فى حالة الجموع. يحاول من يفترضون سمو أفكارهم على أفكار الناس أن يفرضوا الطريقة الأنسب من وجهة نظرهم فى تنظيم الناس: على الإنسان أن يقارن النظريات السياسية والبرامج المختلفة وأن يقتنع بأحدها. وقد تصلح هذه الطريقة بين المثقفين، لكنها ليست المحرك الأساسى لتجربة المعرفة عند الجموع. بل إنها ليست الآلية الأساسية لدى المثقفين والمتعلمين الأفراد، حتى وإن ادعَوا ذلك.
يقدم ميكافيللى فى كتابه الأمير الحديث نصيحة للحاكم، سارية من القرن السادس عشر، هى أن عليه أن يصبح نصف إنسان ونصف حيوان، نصف ثعلب ونصف أسد. نصف حيوان لأن عليه أن يستخدم القوة لقمع المحكومين لكى يستقر حكمه، ونصف إنسان لأن عليه أن يخدع الناس بالأفكار. ولا تشذ الرأسمالية الحديثة ولا نظم الحكم المعاصرة عن هذه القاعدة، بل زادت أهمية ومحورية السياسة «الثعلبية» فى عالم الديمقراطية الرأسمالية المعاصر.
فى المجتمعات المستقرة تسيطر أفكار من يحكمون على الأغلبية الكاسحة: ليس فى مصلحتك تغيير النظام. هناك مشاكل لكن النظام يعمل على معالجتها. هناك بطالة وأزمة اقتصادية لكن السبب فيها ليس النظام الاقتصادى الذى يخلقها، وإنما العمال القادمون من الخارج. الأقباط أغنياء ويكادون يسيطرون على البلد بينما المسلمون فقراء. على المرأة أن تبقى فى المنزل لكى تفسح المجال لعمل الرجل، «لأن مكان المرأة البيت أصلا». تحرير السوق ومناصرة رجال الأعمال تخلق ثروات طائلة وفقر مدقع لكن القطاع الخاص وحده القادر على إحداث التنمية.. إلخ.
وفى ذلك لا يمكن استثناء النخب المتعلمة. فهى لا تشكل وعيها ومعرفتها بمعزل عن أفكار نخبة الحكم المسيطرة عبر الإعلام والتعليم والأحزاب والجامع وغيرها. بل إنها هى التى تسهر فى أغلب الأحوال على الدفاع عن هذه الأفكار والتصورات المنحازة ضد الناس فى الصحافة والمدارس وغيرها، وتتقاضى أجرا على ذلك. وإذا أضفنا عنصر المصلحة الاجتماعية فى استقرار النظام للحفاظ على هذه الأدوار واستتباعاتها بالنسبة لمن يملكون «الوعى والتعليم»، نفهم لماذا كان من أيدوا ثورة يناير على طول الخط منهم أقلية ضئيلة، وتسقط نظرية المثقف المجرد من المصالح، الذى يقارن بين النظريات والبرامج بمعزل عن تاريخ أسرته وخلفيات زملائه فى العمل، ومصالحه الاجتماعية. وتسقط مع هذه النظرية العملية التى يقوم بعض هؤلاء الآن بمقتضاها، بحسن نية أو بغيرها، بإعادة تقديم أنفسهم كمعلمين للجموع عوضا عن تلامذة لهم، كمن يمتلكون الوعى والمعرفة والخبرة فى مقابل الجماهير الجاهلة «التى تسيطر عليها الغيبية والطائفية والمصالح المباشرة والجهل».
الحقيقة أن من يتصور أنه سيبنى حزبا واسعا أو يقنع جمهورا حاشدا ببرنامج سياسى على هذا الأساس واهم وسيصطدم بالحائط فورا. إن أهم سمة لا شك فيها للثورة هى التدخل المباشر للجماهير فى الأحداث التاريخية. فى الأوقات العادية، تضع الدولة، سواء ملكية أم ديمقراطية، نفسها فوق الأمة، ويصنع التاريخ بواسطة الإخصائيين فى هذا الفرع من النشاط أو ذاك الملوك، الوزراء، الموظفون البيروقراط، البرلمانيون والصحفيون. لكن فى هذه اللحظات الحاسمة عندما يصير النظام القديم غير محتمل بالنسبة للجماهير، فإنهم يحطمون الحواجز التى تستبعدهم من الساحة السياسية ويجرفون جانبا ممثليهم السياسيين التقليديين ويخلقون بتدخلهم هم الأرضية الأولية لنظام جديد. وهكذا تتحول التعديلات الدستورية بما فيها من تعبيرات قانونية جافة إلى محل للنقاش فى المدرسة والمصنع وعلى القهوة، فى المكتب وفى الأفراح، وفى كل تجمع للناس.
لا يتشكل وعى الناس فى الثورة بطريقة نظرية ولا يكذب، كوعى النخب، فيما يتعلق بالمصالح التى يدافع عنها ويمثلها. ففى السنوات الأخيرة، حين كان المجتمع الرسمى - هذه البنية الفوقية المؤلفة من عدة طوابق، والتى تتألف منها النخب الحاكمة، بشرائحها المميزة، ومجموعاتها، وأحزابها، وشراذمها - يعيش يوما بيوم، وهو يتغذى بأفكار متهرئة، ويصم أذنيه عن مطالب الثورة الحتمية، تفتنه الأشباح، ولا يتوقع شيئا. كان ملايين الموظفين والعمال يضربون ويعتصمون دفاعا عن لقمة عيشهم ويتعلمون السياسة الحقة بتجربتهم الذاتية. فى معركة المواجهة مع اتحاد العمال الأصفر، والإعلام القومى المأجور، ومباحث أمن الدولة والأمن المركزى، وأعضاء مجلس الشعب الفاسدين، تعلمت الجماهير عن ضرورة الثورة. المعرفة بالمصلحة المباشرة والتجربة الذاتية فى الدفاع عنها هى خير معلم للنظريات السياسية فى إدارة المجتمع. هكذا تغير الجموع الثائرة أفكارها وليس فى حلقات النقاش أو من خلال وصاية خبراء النخب. وهكذا كان ممكنا بعد شهر واحد من تفجر طائفى بحجم ما سببه تفجير كنيسة القديسين أن نرى التعاضد بين جمهور الثائرين مسيحيين ومسلمين. وهكذا أيضا كان ممكنا أن يختفى التحرش الجنسى والنظرة الفوقية للمرأة، التى صارت شريكا مباشرا على قدم المساواة فى المعركة ضد الاستبداد، بلا معلم ولا وصاية ولا نخب. هذا وعى اكتسب بالدم، وعى صلد وشخصى وثورى لأنه يمثل مصلحة الأغلبية المقهورة.
الديمقراطية النابعة من قلب ثورة تتميز عن كل ديمقراطية فى أنها مباشرة وخاصة بكل واحد منا، ونجومها ليسوا قادة الأحزاب ولا المفكرين. فالناس المتعطشون لتغيير حياتهم يبحثون بكل كيانهم عن الطريق إلى المستقبل بعد أن ثبت لهم بالدليل القاطع أنهم يستطيعون جماعيا وديمقراطيا أن يأخذوا مسئولية المجتمع بأيديهم.
وليس هناك شىء أخطر على الثورة فى مصر، من تصدير وترسيخ أفكار النخب التى تحاول انتزاع هذا الدرس وتدميره بالإصرار على أن الجماهير غير قادرة على تدير أمرها بنفسها ولو حتى فى صندوق الانتخاب. وأولى بهؤلاء، لو كانوا يريدون الخير حقا، أن ينزلوا إلى الجماهير ويتفاعلوا معهم ويتعلموا منهم. فهذه هى الساحة الحقيقية لاختبار الوعى السياسى بناء على المحك الحقيقى: من تخدم أفكارك المنمقة يا سيدى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.