روسيا على أبواب انتخابات البرلمان والرئاسة د. جانا بوريسوفنا يعتبر العديد من المحللين أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان نتيجة لانتشار الفساد وضعف قدرات القيادات السياسية على إدارة شؤون البلاد، وتفسخ الحزب الشيوعي السوفييتي الذي شكل الأساس والقوة المنظمة للدولة السوفييتية، حيث تسبب هذا الوضع في تراجع معدلات النمو الاقتصادي وضعف القاعدة الصناعية.
وبالرغم من تمسك الأغلبية في شعوب الاتحاد السوفييتي ببقائه، وهو ما أثبته استفتاء مارس عام 1991، عندما أعلن أكثر من ثلثي مواطني الاتحاد السوفييتي حرصهم على ضرورة المحافظة عليه، كاتحاد لجمهوريات ذات سيادة على قدم المساواة يتم فيها بشكل كامل ضمان حقوق وحرية الإنسان من اي جنسية كان.
إلا أن النشاط المكثف لمجموعات المثقفين في مختلف الجمهوريات السوفييتية السابقة تمكن من دفع هذا الاتحاد إلى هاوية الانهيار، وحقق للنخبة الروسية أهدافها الساعية لقلب نظام الحكم والسيطرة على مقاليد السلطة.
وبالرغم من أن فكرة الانسحاب من الاتحاد السوفييتي لم تكن مطروحة للبحث في بقية الجمهوريات السوفييتية، إلا أن فقدان القيادة السياسية في موسكو السيطرة على مقاليد السلطة، مكن النخبة الروسية من إزاحتها.
وبعيدا عن التقييمات المتباينة والمتضاربة لما حدث، إلا أن الواقع يكشف عن أن عشرات الملايين من أبناء شعوب الجمهوريات السوفيتية السابقة قد عانوا بسبب ما حدث وما زالوا يعانون حتى الان، حيث تعيش قطاعات كبيرة منهم تحت خط الفقر، وتناقص ناتج الدخل القومي بنسب تتراوح بين 9 - 20 ضعفا على نسبة السكان.
وتفككت القاعدة الصناعية والاقتصادية التي كانت تشكل الأساس لاقتصاديات هذه الدول.وعلى الصعيد الاجتماعي تفككت العلاقات بين الأسر بسبب ارتفاع نفقات السفر والمعيشية، إضافة لمعوقات الحدودية التي أفرزتها الصراعات السياسية بين النخب الحاكمة في هذه الدول.
وبعد أن كان الجميع يعيشون لعشرات السنين معا في الاتحاد السوفييتي ضمن عائلة الشعوب، أصبح عليهم أن ينسوا ذلك. كما أغلقت مؤسسات الأبحاث والدراسات العلمية، والمصانع والمعامل.وشهدت البلاد هجرات جماعية للعقول، ما أدى لأن تفقد هذه البلدان خبراءها من أصحاب الكفاءات العالية.
ويعتبر الباحثون أن روسيا عانت اقل من غيرها، لانها كانت المورد المالي ومصدر الثروات الذهنية وغيرها لبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة. وكانت روسيا تمتلك المصادر الرئيسية للثروات.
ومع ذلك شهدت المرحلة الانتقالية لروسيا الى اشكال السوق الحرة في الإدارة الاقتصادية مصاعب ثقيلة، وحالة من الفوضى والنهب في عهد الرئيس الراحل يلتسين، كادت أن تسفر عن تفكك روسيا إلى دويلات، وأوصلت البلاد إلى حافة الانهيار عام 1998 عندما كادت أن تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى اعلان إفلاس روسيا.
وتمكن برنامج حكومة الإنقاذ التى تشكلت في خريف عام 1998 من الخروج من الأزمة. وجرت تعديلات جذرية على منهج ادارة شؤون البلاد عقب تولى فلاديمير بوتين رئاسة البلاد، ما أدى لتحقيق معدلات للنمو الاقتصادي وصلت إلى 5 - 6%.
ولكن روسيا فقدت خلال هذه الفترة عدة عشرات بالمئة من ناتج الدخل القومي.ما يعنى أنه حتى يحدث تطور ديناميكي فان النمو الاقتصادي يجب ان يحقق نموا سنويا يصل إلى 10 - 14%.
ان تباطؤ النمو الاقتصادي في روسيا مرتبط بالآثار غير المحددة للاقتصاد السوفييتي الذي تشكل على مدار70عاما، وجاء تفكك هذا الاتحاد من دون الأخذ بالاعتبار حاجات البلاد والشعب. لقد ترك انهيار الاتحاد السوفييتي آثاره على المجتمع الدولي، ويصعب القول إن ابعاد هذه الآثار قد تكشفت ابعادها اليوم بشكل كامل.
لأن اختفاء الاتحاد السوفييتي أدى إلى انهيار نظام العلاقات الدولية الذي كان قد تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، والقائم على التوازن.وتبين ان المجتمع الدولي نتيجة لهذا الوضع أصبح يواجه مخاطر متنوعة، منها تتنامى المخاطر وتهديدات النزاعات الدولية، والأزمات والحروب الإقليمية، والهجمات الإرهابية، بما في ذلك مع استخدام أسلحة الدمار الشامل.
ومنها ايضا تنامي نزعات الهيمنة المطلقة ونظرية أحادية القطب في العالم التى تسعى اتجاهات سياسية في الولاياتالمتحدة لفرضها على بقية دول العالم وعلى المجتمع الأميركي.
ويبدو أن عشرات السنين من الاستقرار في روسيا قد جعلت السياسيين الروس يفقدون القدرة على العمل في الظروف الطارئة.
حيث تلجأ القيادات السياسية لطرح حلول مؤقتة للأزمات، ومسكنات للصراعات الدولية والإقليمية، ولم تعد القيادات السياسية قادرة على إقناع أطراف المجتمع الدولي ببحث الحلول الجذرية لأزمات البؤر الساخنة.وتعثرت مشاريع إنشاء نظام امني موحد ضد التهديدات المستقبلية أمام خطط توسع الناتو.
واليوم ونحن على أعتاب انتخابات برلمانية ورئاسية في روسيا، لابد من التأكيد على أن روسيا تحتاج لقيادة سياسية حكيمة. وفى ظل الإصلاحات الديمقراطية والإصرار على مواصلة تطوير المجتمع وفق مسار ديمقراطي يجب ويمكن أن تحصل البلاد على قيادة تخرج المواطن من معاناته، وتعيد لروسيا مكانتها،
بل وتجعل منها قوة داعمة فعالة لحلفائها الإقليميين، وبقية حلفائها في مختلف أنحاء العالم.لو كانت روسيا قد حظيت بشريحة سياسية أفضل خلال اعوام التسعينات، لكان الوضع اليوم مختلف بكافة تفاصيله. لانها كانت ستحمى القاعدة الاقتصادية من الانهيار، وستلجم حالة الفوضى التي سادت خلال التسعينيات تحت شعار المرحلة الانتقالية لسيادة علاقات السوق وأسس الاقتصاد الحر.
ستشهد روسيا خلال الشهور القادمة انتخابات برلمانية تبدو نتائجها المتوقعة أكثر وضوحا من الدورات الانتخابية السابقة، ويصعب القول إن الفضل في هذا يعود إلى برامج هذه القوى السياسية ودورها في الحياة السياسية، لسبب بسيط،
أن أغلبية أعضاء الحكومات الروسية خلال السنوات الماضية لم تكن من قيادات او حتى كوادر هذه القوى السياسية، واقتصر دور الأحزاب السياسية على سن القوانين وإقرار الميزانية. وسيادة حزب ما في الساحة السياسية الروسية اليوم لا يعود الفضل فيه لم حققه هذا الحزب او ذاك للمواطن الروسي، وانما يعود لتوازنات القوى داخل السلطة،
ولأن ما تحقق للمواطن العادى كان عمليا من انجازات سياسات الكرملين والحكومة. والمثير للدهشة أن برامج هذه القوى متشابه، فكلها تريد شن حرب ضد الفساد، ودعم قطاع الأعمال، والارتقاء بمستوى معيشة المواطن، وباستثناء الشيوعيين، تدعم بقية القوى سياسات الكرملين، ما يضعها في قالب واحد.
وتتناقص أهمية انتخابات البرلمان بشكل كبير أمام انتخابات الرئاسة ليس فقط لأن روسيا جمهورية رئاسية، وانما لأن نتائج انتخابات الرئاسة ستحدد السياسات التي ستنتهجها الحكومة الروسية! ما يثير الشكوك حول عمق تأثير الأحزاب الروسية في الحياة السياسية؟
واذا اعتبرنا أن مرحلة حكم بوتين قد أنقذت ما يمكن إنقاذه، وأعادت لروسيا بعضا مما فقدته خلال مرحلة التسعينات، فأن المرحلة القادمة ستكون اخطر المراحل الياسية في حياة البلاد، لأن نظام الحكم الجديد سيكون أمام مفترق طرق.. اما أن يواصل عملية إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، او ينزلق في هاوية السياسات الانتقالية؟ والمشكلة أن القادم إلى الكرملين. عن صحيفة البيان الاماراتية 29/9/2007