ما إن أعلن حزب روسيا الموحدة الحاكم ترشيح رئيس الوزراء فلاديمير بوتين لخوض الانتخابات الرئاسية في مارس المقبل , إلا وحبس كثيرون في الغرب أنفاسهم , بالنظر إلى طموحاته الواسعة حول إعادة روسيا إلى الواجهة كدولة عظمى . وكان بوتين "59 عاما" التف على الدستور الذي يمنع توليه الرئاسة أكثر من فترتين متتاليتين وعقد صفقة قبل 4 سنوات قام بموجبها بتولي رئاسة الوزراء وأقنع صديقه ديمتري ميدفيديف بخوض انتخابات الرئاسة حينها , على أن يعود للكرملين مجددا في مارس 2012 . ورغم أن ميدفيديف كان في الظاهر هو رئيس روسيا , إلا أن بوتين كان يمسك كافة مقاليد السلطة بيده فعليا ، ولذا يؤكد كثيرون أنه سيعود للرئاسة مجددا ليوقع بنفسه على أوراق إقامة الإمبراطورية الروسية الثالثة بعد روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي. ولعل التحذيرات التي وجهتها روسيا للغرب في الأيام الأخيرة ترجح صحة ما سبق , حيث أعلن الكرملين أنه سوف يتخلى عن معاهدة خفض السلاح النووي التي وقعها مع واشنطن في 2009 في حال عدم تخلي الولاياتالمتحدة عن خططها لنشر الدرع الصاروخية في أوروبا بالقرب من حدودها. ولم يكتف الكرملين بالتحذير السابق , بل إنه أرفقه بالكشف عن قاعدة صواريخ روسية في مدينة كالينينجراد الروسية التي تقع على الحدود مع ليتوانيا وبولندا وهما عضوان في حلف الناتو. وبالنظر إلى أن معاهدة خفض السلاح النووي الموقعة بين الولاياتالمتحدةوروسيا عام 2009 اعتبرت أحد الإنجازات المهمة للبيت الأبيض في مجال السياسة الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما وكان يعول عليها الأخير في حملته الانتخابية لعام 2012 , إلا أن عودة بوتين المتوقعة للكرملين من شأنها أن تحبط خطط أوباما في هذا الصدد . بل وهناك من يرجح أيضا أن أوباما سيواجه معارضة قوية جدا من موسكو فيما يتعلق بسوريا وإيران وهو أمر سيضعف أكثر وأكثر من موقفه في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة . ورغم أن واشنطن ستسعى بقوة لإضعاف موقف بوتين خلال الأسابيع المقبلة , إلا أن هذا لن يؤثر على شعبيته , حيث يصفه الروس بالزعيم القومي لأنه انتشل روسيا خلال توليه الرئاسة من حالة الفوضى التي عانت منها خلال حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين بين عامي 1991 و1999 والتي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي ، كما حقق أكبر نمو اقتصادي منذ عشرات السنين , واستخدم أيضا القوة العسكرية للقضاء على المقاتلين الشيشان ، وهو ما اعتبره أنصاره إنجازا كبيرا جدا لأنه حافظ على تماسك نسيج روسيا الاتحادية التي تمتد مساحتها إلى تسعة آلاف كيلومتر. وأمام ما سبق , أكد الكاتب سايمون ديسديل في مقال له بصحيفة "الجارديان" البريطانية في 2 ديسمبر أن عودة رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين المحتملة إلى سدة الرئاسة تشكل تحديا للقوى الغربية التي لا تبدو أنها مهيأة في الوقت الحاضر لمواجهة تحد من هذا النوع. وأضاف الكاتب أن عودة بوتين للرئاسة تعني أنه سيظل في هذا المنصب حتى عام 2024 وسيكون هدفه الأساسي هو: إقامة الإمبراطورية الروسية الثالثة بعد روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي , مشيرا إلى أن بوتين كان وصف انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 على أنه "أخطر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين". وتابع " المراقب لبوتين يرى أنه يتهيأ لتخفيف وطأة تلك الكارثة، خاصة وأن عودته إلى الرئاسة سوف تجعله المتحكم الأول في السياسة الخارجية الروسية، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية في مارس المقبل". واستطرد ديسديل " بوتين لا يعير اهتماما يذكر للسياسة الداخلية، لكن سر نجاحه في الداخل يكمن في الحس الوطني العالي الذي يتخذه شعارا له، وتصويره روسيا على أنها مستهدفة من مؤامرة غربية شرسة تقودها الولاياتالمتحدة , الدلائل تشير إلى عزم بوتين إعادة روسيا إلى الواجهة كدولة عظمى , وجزء كبير من خططه يستند إلى معارضة روسيا للولايات المتحدة التي تعتبر العدو التقليدي لموسكو". وأشار إلى أن بوتين بدأ بالفعل بمشروع "يوراسيا" وهو اتحاد تطمح روسيا لإقامته مع عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وسيساهم -إذا نجح- في دعم نفوذ روسيا في المنطقة عسكريا وسياسيا. كما يتضمن مشروع الإمبراطورية الروسية الثالثة لبوتين - حسب الكاتب - قبضة حديدية لها طابع سياسي على إيرادات روسيا من الطاقة إلى أوروبا , حيث يشير المحللون في هذا الصدد إلى أن روسيا ستصدر حوالي 50% من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي بحلول عام 2030. ويتهكم ديسديل على هذه الحقيقة بالقول: إن الإمبراطورية الروسية لا يمكن أن تقام إلا بضمان واردات مالية عالية من استمرار تدفق موارد الطاقة إلى أوروبا، أي أن أوروبا تمول مشروع الهيمنة عليها مستقبلا. وأكد الكاتب البريطاني أيضا أن مشروع بوتين يهدف فيما يهدف إلى التخلص من التأثير الغربي الذي دخل إلى روسيا في العقدين الماضيين، والعمل على فرض نفوذ أوسع في أوساط الدول النامية، ويتجلى ذلك في الموقف الروسي من البرنامج النووي الإيراني والموقف من سوريا، رغم الاستنكار الدولي الواسع لقمع النظام السوري. وفيما أكد أن الأولوية الأولى لبوتين رغم كل شيء هي تحديث الجيش الروسي , وصف الكاتب بوتين بأنه رجل مخابرات سابق ذكي جدا , ومهووس باللياقة البدنية، ووطني متحمس ويتهيأ للعودة إلى رئاسة روسيا، في وقت أصبحت مشاريعه لإمبراطورية ثالثة واضحة بشكل لم يسبق له مثيل. واختتم قائلا: إن انتخابات مارس/آذار القادم لن تشهد منافسة لبوتين , ولكن المعركة الحقيقية لن تبدأ إلا بعد انتهائها , وتحديدا مع أمريكا . ورغم أن حزب بوتين لم يحقق الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في روسيا في 4 ديسمبر , إلا أن هذا لن يؤثر - بحسب كثيرين - على فرصه في اكتساح انتخابات الرئاسة المقبلة بالنظر إلى أنه يمثل "الحلم الروسي" .