عالم ما بعد الهيمنة الاميركية!! محمد خرّوب مصطلح جديد نَحَتَهُ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وجّه من خلاله نصيحة للولايات المتحدة بأن تبدأ ب (التكيّف) مع عالم ما بعد الهيمنة الاميركية.. واذ بمقدور المرء ان يأخذ هذا التصريح المحمول على اكثر من معنى والمفتوح على قراءات عديدة لا نحسب ان الدبلوماسي الروسي المخضرم واللاذع، قد اطلقه على عواهنه في ظروف دولية خطيرة وعاصفة، وصفت قمة الاتحاد الاوروبي (على سبيل المثال) العلاقة بين الاتحاد وروسيا بأنها تقف عند مفترق طرق. ان من السذاجة الاعتقاد بأن عالم ما بعد الثامن من آب 2008، هو العالم ذاته الذي كان عليه قبل ذلك التاريخ، الذي حرّك او قل هز الكثير من المفاهيم والمسلّمات، التي سعت الولاياتالمتحدة، وخصوصاً في عهدي البوشين الاب والابن (دع عنك مرحلة بيل كلينتون)، لتكريسها في العلاقات الدولية، واعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة انتصاراً للرأسمالية وهزيمة ساحقة للاشتراكية ومفاهيم العدالة الاجتماعية، وحق الشعوب في التحرر والانعتاق والمحافظة على خصوصياتها الثقافية والحضارية واختيار الانظمة والطرق والاساليب والمقاربات. التي ترتئيها لايجاد موقع لها على الخريطة الدولية، بل والأكثر اهمية من ذلك هو ان جورج بوش الأب، الذي شهد احتضار الاتحاد السوفياتي ثم انهياره نائباً لرونالد ريغان ثم رئيساً (لدورة واحدة) استخدم نفس العبارات والمفاهيم، التي اعاد جورج بوش الابن تكرارها، ولكن في اختلاف النبرة والاسلوب والمقاربات.. وان كان الانصاف يقضي بالاعتراف بأن بوش الأب كان اكثر تعقلاً وبُعد نظر وفهماً لتعقيدات العلاقات الدولية من ابنه الذي ليس فقط لا يتوفر على أي ثقافة سياسية أو اطلاع او تجربة (حتى بعد ثماني سنوات من وجوده في البيت الابيض) والذي اعاد العلاقات الدولية الى مربع العسكرة اعتقد كثيرون انها غادرته منذ عقدين على الاقل. استحالة استمرار دولة واحدة في قيادة عالم كعالمنا على هذه الدرجة من التعقيد والهشاشة والتناقضات الثقافية والعرقية والحضارية وقبل كل شيء في هذا المستوى من التنافس الشديد على المواقع والثروات والنفط والغاز والمجالات الحيوية والقوة غير المسبوقة التي باتت عليها الشركات عابرة القارات ورؤوس الاموال التي تتحرك كالاعصار، فتترك اثارها المدمرة، ليس فقط على البورصات والمتعاملين فيها، وانما ايضاً على الدول واقتصاداتها ومكانتها، في ظل عولمة متوحشة ومنظمة تجارة عالمية كبّلت الدول الفقيرة وفتحت الباب على مصراعيه لنهب ثروات الشعوب الفقيرة وارتهانها لوصفات البنك والصندوق الدوليين، واطاحت الحدود السيادية (وليس فقط السياسية) وبات كل شيء فيها مكشوفاً وعرضة للقضم والهضم والهدم.. الرسالة الروسية التي انطوى عليها تعبير لافروف، تبدو مفهومة في ظل عدم وضوح الخطوات الاميركية اللاحقة على ما اقدمت عليه ادارة ميدفيديف - بوتين، والتي قد تتبلور في الزيارة التي بدأها ديك تشيني لجورجيا هذا اليوم، وهي زيارة تبدو متأخرة بعد أن كشفت تداعيات الازمة الجورجية مدى تورط ادارة بوش في دفع سكاشفيلي الى مغامرته الطائشة والتي فتحت شهية موسكو في فرض قواعد جديدة للعبة قديمة واظبت الادارات الاميركية المتعاقبة منذ العام 1991، وخصوصاً في عهد الرئيس الروسي المخمور دائماً بوريس يلتسين، على وضع قواعدها والزام الجميع - وبخاصة حلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوروبي - التزام هذه القواعد وعدم الخروج عليها، ولهذا لم يكن غريباً ولا مفاجئاً هرولة معظم دول الاتحاد السوفياتي السابق وتلك التي كانت منضوية في حلف وارسو و(المنظومة الاشتراكية باتجاه بروكسل مقر الاتحاد ومقر الناتو)، وتم قبولها جميعاً، وتواصلت الجهود والضغوط لضم ما تبقى وبخاصة اوكرانيا وجورجيا. قلنا بروكسل؟. نعم، فالعاصمة البلجيكية تجمع على ارضها اعتى قوة عسكرية في العالم (26 دولة منها ثلاث دول كبرى نووية وذات عضوية دائمة في مجلس الأمن واشنطن ولندن وباريس)، وهي حلف شمال الاطلسي (الناتو) والقوة الاقتصادية الثانية بعد الولاياتالمتحدة (27 دولة منها 4 دول تشكل نصف دول مجموعة (G8)، التي تضم المانيا، فرنسا، بريطانيا، ايطاليا، كندا، اليابان، الولاياتالمتحدةوروسيا) ونقصد هنا الاتحاد الاوروبي. واذ قمة الأخير (الاتحاد الاوروبي) لم تذهب باتجاه إحداث قطيعة كاملة مع روسيا، كما رغب كثيرون في واشنطن ووارسو ولندن وكييف ودول البلطيق الثلاث ودائماً جورجيا، فان القراءة الهادئة لقرار قمة الاتحاد بتجميد حوار الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، تفضي الى انطباع بان الاوروبيين لجأوا الى هذا الخيار الحذر ادراكاً منهم انهم سيدفعون ثمن وكلفة أي مواجهة روسية اميركية حتى عبر استعادة اجواء الحرب الباردة، كما كانت الحال عليه، طوال اربعة عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولهذا، لم يلجأ قادة دول الاتحاد الاوروبي الى الغاء قمة روسيا والاتحاد الاوروبي المقررة في 14 تشرين الثاني المقبل، والتي لم يكن اختيار توقيتها عبثاً (عشرة ايام بعد انتخاب الرئيس الاميركي الجديد، رغم ان الموعد تحدد قبل اندلاع الأزمة الجورجية)، كذلك، كان لألمانيا وايطاليا دورهما في لجم اندفاعة الدول المنحازة (اقرأ التابعة) للولايات المتحدة، والتي ارادت فرض عقوبات اقتصادية، سياسية ودبلوماسية على روسيا، يعلمون قبل غيرهم، ان الاخيرة لن تقف مكتوفة الايدي حيالها، ولديها من الاوراق ما يكفي لارباك الاوضاع في مجمل اوروبا. ولعل مواقف برلين المترددة والحذرة حد الارتباك، هي التي اسهمت في التوصل الى قرار ارجاء محادثات الشراكة مع روسيا، حتى التزام وقف اطلاق النار، الأمر، الذي رأت فيه موسكو قراراً مقبولاً ولو على مضض لأنه في نظرها انحياز لحكومة جورجيا التي بدأت الحرب.. الحال، ان ما جرى في قمة بروكسل، يجب ان يفتح عيون الأنظمة العربية على الاساليب الحضارية والدبلوماسية الرفيعة، التي تدير بها هذه الدول خلافاتها.. دون ان يغامر احد منها بالتغيب او التعصب او تفجير القمة، لأنها لم تأخذ بوجهة نظره.. فالمستشارة الالمانية ذات الوزن والدور الكبيرين في الاتحاد قالت: يجب اعتماد الصراحة مع روسيا دون ان يصل الامر الى قطع الحوار معها. فيما وزير الخارجية الايطالي فرانكو فراتيني ذهب الى أبعد من ذلك، بالقول: روسيا ليست بلداً معادياً بل شريكاً استراتيجياً، يجب عدم قطع العلاقات معه.. فهل يتعظ العرب من كل ما جرى ويجري؟.. عن صحيفة" الرأي "الاردنية 3/9/2008