حسابات جورجية.. وحسابات إيرانية عبدالوهاب بدرخان يعتقد عدد من الخبراء الغربيين أن الحدث الروسي- الجورجي لن يمر من دون تداعيات، بالأحري من دون رد. كيف؟ ليسوا متفقين علي فكرة واحدة ولا يرجحون احتمالاً بعينه. لكنهم متفقون علي وجوب أن يكون الرد ذا طابع عسكري استراتيجي أيضاً، وإلا فإن وضع حلف الأطلسي والولايات المتحدة سيكون بائساً جداً بعد هذه الصفعة. ماذا عن إيران في هذا السياق؟ حرب أو لا حرب، ضربة أو لا ضربة، المسألة علي الطاولة منذ بداية الأزمة، ولا قرار، بل قرار يتجدد باستمرار للبحث عن حل سياسي دبلوماسي. وإذا كان هذا الحل يتعلق فقط بما يسمي الحوافز فهناك أحد أمرين: إما إن هذه الحوافز لم تبلغ يوماً المستوي الذي يحفز إيران علي التفكير فيها جدياً، وإما أنها بلغت أقصي ما يستطيعه أصحابها ولم تنل القبول الإيراني وبالتالي فإن الحل الدبلوماسي يبدو غير ممكن. الاحتمال الثالث هو أن تكون في جعبة الوسطاء حوافز أفضل لايزالون يحجمون عن عرضها، إذاً فلماذا لا يتوقع من إيران أن تنتظر وتواصل التفاوض. لكن الوسطاء أنفسهم هم الذين يقولون لإيران أن عليها أن تختار لأن الوقت ينفد. وماذا بعد أن ينفد الوقت؟ مزيد من العقوبات. ولا شيء في العقوبات يمكن أن يخيف إيران، فهي تعيش منذ نحو ثلاثين عاماً في حال عقوبات مما مكنها من التعايش معها والبحث عن بدائل لعلها وجدتها بالفعل. أكثر ما يجري البحث فيه للرد علي روسيا هو العقوبات أيضاً، ليس عبر مجلس الأمن، وإنما بشكل ثنائي. كل المصالح الروسية الأساسية مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ستكون تحت التهديد. لكن المهمة لن تكون بالبساطة المتصورة. يمكن ازعاج روسيا إنما سيصعب عزلها، وبالتالي سيصعب استدراجها إلي تراجعات أو تنازلات. لا أحد يعتقد أن روسيا تريد إحياء الاتحاد السوفييتي وإعادة الدول الاشتراكية السابقة إلي كنفها. فضلاً عن أنها لا تستطيع. لكنها تريد بالتأكيد أن تحدد منطقة نفوذها وأن تفرض علي الغرب احترام هذا النفوذ والاعتراف به. هذا لا يعتبر سبباً كافياً للحديث عن حرب باردة جديدة، وفي أي حال لم يكن من الحكمة استخدام جورجيا لاستفزاز الدب الروسي، إن لم يكن لمصلحة جورجيا نفسها فأقله من أجل الوئام البارد الذي نشأ في أوروبا. صحيح أنه لم يبلور وينضج بعد إلا أنه لم يكن يفترض بالضرورة أن تتجدد الحروب فيها. صحيح أن هناك مشكلة تتعلق بدول التماس مع روسيا إلا أن ضمان أمن هذه الدول لا يفترض بالضرورة نشر دروع صاروخية. لكن يبدو أن المنطق الأمريكي- الأطلسي لا يستطيع الاعتراف بأي نفوذ خارجه.. هذا لا يعني أن لا خيار لروسيا سوي الرضوخ لهذا المنطق. عودة إلي إيران، فكما أن فوازير الضربة أو لا ضربة مستمرة في إشعال الجدل، كذلك انطلق النقاش بعد الحدث الروسي- الجورجي في اتجاهين: هل أن هذا الحدث يرجح الضربة أم يستبعدها؟ هنا، أيضاً، لا أحد يملك جواباً حاسماً. الأكيد أن ذلك الحدث قد أحال الأزمة مع إيران إلي مرتبة تالية من الاهتمام الغربي. وإذ كان الرئيس السوري ذهب خلال زيارته لروسيا إلي حد طلب حماية صاروخية، فإن حليفه الإيراني لم يفعل. إذ لا شأن له، أو بالأحري لا مصلحة له في دخول معمعة الأزمة الجورجية. ولعل التجربة علم الإيراني أن هناك حدوداً للدعم الروسي الدبلوماسي وكذلك الصيني. الأكيد أيضاً أن الانتقال من ذهنية الاكتفاء بالعقوبات إلي ذهنية اللجوء للقوة العسكرية لن يتم بموافقة إجماعية دولية، فالاشتباك الروسي- الغربي الأمريكي المستجد يستبعد كلياً احتمال التوافق الدولي علي ضرب إيران. وفي حال حصول ضربة لا يتوقع أن تتدخل روسيا لمصلحة إيران، لكن إذا صمد النظام الإيراني بعد الضربة فإن الدعم الروسي سيكون مهماً وحيوياً لهفي إدارة ما بعد الضربة، وهي المرحلة التي يخشاها الجميع، بمن في ذلك الأمريكيون. لاشك أن الاعتراف الروسي باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا سيعقِّد مهمة الوسطاء بحثاً عن حل دبلوماسي لمعالجة نتائج الحرب. وإذا كان هذا الاعتراف لا يعني ضماً للدويلتين، إلا أن الجميع يتعامل معه علي أنه بمثابة الضم، خصوصاً أن سكانهما لا يبدون أي رغبة للبقاء في الإطار الجورجي، ثم أن جورجيا نفسها لم تتمتع بالحنكة ولا بالحكمة التي تمكنها من الاحتفاظ بهذين الكيانين اللذين تعتبرهما من أراضيها التاريخية. جورجيا دفعت ثمن حماقة رئيسها وقد لا تتمكن من نيل الحماية الأطلسية التي تطمح إليها، وحتي لو حصلت عليها فإنها ستؤسس لمناخ مواجهة دائمة مع روسيا. واقع الأمر أن مشكلة خوف بولندا وأوكرانيا وجورجيا وتشيخيا من النفوذ الروسي كانت تتطلب حلولاً أكثر مرونة ومعقولية من مجرد ضمها إلي حلف الأطلسي ومدها بالمنظومات الصاروخية. وفي المقابل يمكن القول إن روسيا لم تبذل أي جهد حقيقي لوضع أسس تعايش وتعاون مع هذه الدول بدل شحذ عدائيتها. وبعد هجومها الشديد علي جورجيا لم تبرهن روسيا شيئاً آخر. غير أن مخاوف جيرانها كانت في محلها. أما ما برهنه الغرب فهو أن النظام الدولي لم يستقر بعد، وأنه قد يمر اضطراراً بمرحلة تشابه الحرب الباردة التي اعتمدت خصوصاً علي حروب الآخرين بعيداً عن أوروبا. هنا تعود إيران لتلوح في أفق الأزمة الدولية، بالتوازي مع أزمة ملفها النووي. يمكن أن تقرأ طهران الحدث الروسي- الجورجي بأنه دلالة جديرة علي ضعف أمريكي. قد يصح ذلك علي مستوي التحليل لكنه لا يصح علي مستوي القدرات. لاشك أن المرحلة خطيرة جداً، خصوصاً مع التقاء استحقاقات عدة في آن، أمريكياً وإسرائيلياً. فاحتمال الضربة قائم طالما أن أصحابها لم يجدوا ما يبرر الاستغناء عنه، وليس مستبعداً أن تكون حسابات ما بعد الحدث الجورجي أكثر تشجيعاً عليها تحديداً قبل الانتخابات الأمريكية. عن صحيفة الراية القطرية 1/9/2008