ما جرى في منطقة القوقاز من نزاع حول أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بين روسيا الاتحادية العملاقة وجورجيا الصغيرة له أبعاد عالمية، ولايمكن النظر إليه في الحدود الضيقة، التي تحاول الدول الغربية إضفاءها عليه. فضلا عنه - في حقيقة الأمر - ينذر ببوادر صراع جديد بين الشرق والغرب، غابت عنه الأيديولوجيا - فلم يعد هناك تناقض شيوعي مع الرأسمالية العالمية ولكن بقيت أسباب الصراع الدائم على النفوذ، وأخذ صورة رفض روسي للاستهانة الغربية بدور موسكو على الصعيد العالمي، ومحاولة محاصرتها داخل حدودها، ابتداء من المناطق المجاورة، التي نجحت الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفاؤها في الحصول على موطيء قدم فيها. وكانت هذه النقطة في جورجيا هذه المرة، بعد أن تولى الرئاسة في تبليسي ميخائيل شاكاسفيلي - المتشيع لواشنطن مثل الأميركيين أنفسهم أو أكثر- عام 2003 ، وتمكن من إزاحة سلفه - وزير الخارجية السوفييتي الأخير - إدوارد شيفارنادزة. فمنذ تولى فلاديمير بوتين رئاسة روسيا عام 2000، دبت في أوصال الدب الروسي روح الحياة مرة أخرى، بعد سنوات أتاحت الفرصة للفساد لكي يتفشى في الداخل - خلال السنوات الأولى من التحول الاقتصادي - فاغتنى الفسدة، واتسع نطاق أنشطة المافيا في مجالات متعددة، وظهرت آثار التحلل الاجتماعي، واستفادت الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الغربية من ذلك، فتم إعلان "النظام العالمي الجديد"، ليكون أحادي القطبية بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية.
لكن الرئيس جورج بوش (الأب) كان على دراية واسعة بالشؤون الدولية، ودفعته حنكته السياسية إلى عدم امتهان الروس، تفاديا لاستفزاز المشاعر القومية الروسية في مرحلة الانهيار والمشكلات الداخلية، وحتى لايقدم لهم مبررا لتوحيد جهودهم في مواجهة تحد خارجي. واستمر الحال على هذا النحو في عهد خلفه الرئيس بيل كلينتون، حتى تولى الرئاسة جورج بوش (الإبن) باسم المحافظين الجدد، واتبع سياسة توسيع نطاق عضوية حلف الأطلنطي باتجاه اشلرق، لمحاصرة احتمالات عودة روسيا إلى وضع الدولة العظمى الثانية في العالم، وتزامن ذلك مع الحشد الغربي في سياق "الحرب ضد الإرهاب"، كما تزامن مع وجود بوتين في سدة الرئاسة بموسكو، فتهيأت الظروف للمواجهة بين الطرفين، ولم يكن هناك سوى انتظار سبب لذلك.
وفي ظروف الاندفاع الأميركي العنيف باتجاه الشرق - في عهد بوش (الإبن) - سواء كان ذلك بذريعة "الحرب ضد الإرهاب"، أو مواجهة الدول "المارقة" مثل إيران، أواحتواء روسيا بشكل مباشر، ومساومة موسكو على مقابل لتأييد مطلبها في الحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية، كان هناك أكثر من سبب لاستفزاز الدب الروسي، وهو يشعر أم الحاقة تضيق عليه، بانضمام - أوضم - الدول التي كانت أعضاء في حلف وارسو المنحل إلى حلف الأطلنطي، وحتى بعض الدول التي كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي السابق، حتى أصبحت حدود ذلك الحلف على أبواب موسكو.
وفي الوقت نفسه، لم يغفل الروس عن أن الزعم الأميركي بأن نشر الدرع الصاروخي في بولندا، يهدف للحماية من الصواريخ الإيرانية، ليس سوى مبرر واهي ومكشوف لمحاصرة روسيا وتهديدها، خاصة في ضوء استمرارها في استكمال بناء مفاعل بوشهر النووي لإنتاج الطاقة الكهربية.
يعرف الجميع أن القضية هنا، هي الرفض الروسي للتحرك العسكري الجورجي يوم 7 أغسطس الجاري، اجتياحا لإقليم أوسيتيا الجنوبية - الذي يطالب بالانفصال عن جورجيا، والانضمام إلى أوسيتيا الشمالية، المنضوية تحت لواء روسيا الاتحادية - في اختبار لم يمكن أن يكون عليه رد الفعل الروسي، انتهازا لفرصة انشغال العالم بافتتاح دورة بكين للألعاب الأوليمبية. ولايمكن لأحد أن يصدق أن واشنطن لم تكن تعلم بذلك، في ضوء وجود أكثر من ألف مستشار عسكري أميركي، يشرفون على تدريب القوات المسلحة الجورجية، ووجود قوات أميركية للمشاركة في مناورات كانت القوات الجورجية تجريها في ذلك الوقت. ومن ثم، فإن الولاياتالمتحدة الأميركية - على الأرجح - أوحت لجورجيا بتفجير فقاعة الاختبار هذه. ولأنها لم تكن تتوقع رد فعل روسي بهذه الدرجة من الرعة والحزم، فقد اتسم رد فعلها بالانفعال والغضب، وزاد من ذلك الإحساس بالعجز عن عمل شيء لتلافي آثار ذلك في الوقت الحاضر. ومن مظاهر هذا العجز، التراجع عن إرسال مدمرة أميركية، كان من المقرر وصولها إلى ميناء "بوتي" الجورجي على البحر الأسود.
الغريب في الأمر هو أن الأميركيين - وتابعيهم البريطانيين - يتهمون الروس الآن بأن رد فعل موسكو على المغامرة الجورجية، ينذر بالعودة إلى عهد الحرب الباردة، وكأنهم لم يكونوا البادئين بالاستفزاز. ويبدو أن الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفاءها الغربيين، لايريدون التوقف عن إيجاد واقع جديد في العلاقات الدولية لاتقبله روسيا، في الوقت الذي ليست لديهم القدرة لفرضه عليها. ومن الناحية الأخرى، فإن روسيا أصبحت لديها القدرة على رفض مايحاولون فرضه عليها، ومن خلال رد فعلها على المغمرة الجورجية، أعلنت للمجتمع الدولي أن المرحلة التي شهدت إعلان استقلال كوسوفو من جانب واحد - واعتراف الغرب بدولتها - رغم إرادة موسكو قد انقضت، وأنه يمكن لموسكو أيضا أن تعترف باستقلال أوسيتيا الجنوبية.
يتبقى بعد ذلك نقطتان؛ الأولى: بالنسبة لانتهاء مرحلة الحرب الباردة، ونذر عودتها في الوقت الحاضر. فالجميع يعرف أن الحرب الباردة توقفت بسبب انسحاب أحد طرفيها من الساحة، عند انهيار الاتحاد السوفييتي. لكنها لم تنته بالنسبة للأميركيين والغربيين، الذين استمروا في محاولة الإجهاز على روسيا وفرض انكماشها داخل حدودها، إضافة إلى شن الحرب ضد "الإرهاب"، لمواصلة استنفار القدرات العسكرية الغربية، استعدادا لمراحل قادمة من المواجهات الدولية. ومن ثم فإن الحرب الباردة لم تنته في الواقع، وإن أخذت شكلا آخر. أما النقطة الثانية: فتتعلق بموقف روسيا نفسها، لو أن أوسيتيا الشمالية - وهي جزء منها - طالبت بالاستقلال والتوحد مع أوسيتيا الجنوبية. وهذه النقطة الثانية مازالت تحتاج إلى إدابة.