مطاع صفدي خمس سنوات من معايشة شعب كامل لقضية مقتل رجل واحد، قد ميّزته الظروف النفطوية بالمال الفلكي، والنفوذ السياسي، والجاه الإقليمي والدولي.
خمس سنوات، حدث خلالها لشعب لبنان الصغير ما لا يحدث لأمة كبرى. انخرط الناس جميعاً في نوع من محكمة كلية، رفعت شعار معرفة الحقيقة. فانقسم المجتمع كله بأطيافه ومؤسساته وأحزابه، ما بين هيئتين للإتهام والدفاع.
لم يعد اللبناني العادي يفصل بين عنعنات السياسة اليومية، وشؤون القضاء، الذي تحول إلى شبه عدالة افتراضية، شعبوية سابقة على كل محكمة حقيقية قادمة.
خمس سنوات قضاها شعب لبنان، متعايشاً مع مختلف صنوف المخاوف الجماعية، وردود أفعالها الطائشة على بعضها؛ انسحبت أسماء الشخصيات والأحزاب والطوائف والطبقات. ليصبح لهذه جميعاً إسمان وحيدان فقط، جماعة الرابع عشر من آذار، والثامن من آذار.
تمّ اختصار الفصول والسنين والتاريخ، في يومين من شهر واحد.
فالناس هنا، على مختلف مشاربهم، هم آذاريون فحسب. غير أن لبنان الصغير منفتح على العالمين، العربي والدولي تطوراته السياسية، ومؤامراته وحروبه، قد يرمز بعضها إلى تحولات دولية.
إذ يسجل الفصل الأصعب من مسيرة الإمبراطورية الأمريكية، أن المدخل إلى مأزقها العسكري الراهن، اقترن بالهزيمة الحربية الفاصلة، الأولى من نوعها، التي ترتكبها إسرائيل، القلعة الأمريكية المتقدمة للإمبراطورية في قلب الوطن العربي.
فقد انقلب عدوان الصهيونية البربري (تموز 2006) على لبنان، وتدمير الكيان المدني لجنوبه، وتهجير نصف شعبه على الأقل من مئات قراه وبلداته، انقلب هذا العدوان إلى إسقاط ذروة المشروع الإستعماري المتجدد، للمشرق العربي، الموصوف بمصطلحه المختزل الحركي، الشرق الأوسط.
كادت الحرب التموزية تلك أن تبطل كل جدوى للوكالة الأمنية المعطاة لوظيفة قلعة الغرب المتقدمة عامةً، كمساهمة رئيسية في استدامة معادلة التفوق المعنوي والمادي للعرق الأبيض، مقابل المستضعفين المنصاعين، المستتبعين له من العروق الأخرى، من ضعفائها السُمُر والسود خاصة.
تلك هي إرهاصات الزعزعة الأولى للسلطان الأمريكي، المؤرخة واقعياً بانحسار مبدأ التفوق المطلق لكل هجمة عسكرية على شعوب العرب والإسلام.
منذ فشل الضربة (التأديبية) الإسرائيلية الأخيرة ضد المقاومة اللبنانية التي تشكل الحلقة الثانية، ما بعد الفلسطينية، وما قبل الحلقة العراقية ومعها، في مسيرة التاريخ الثاني للاستقلال الوطني العربي على مستوى الشعوب هذه المرة، مقابل ضياع استقلال الدول الشكلاني حتى الآن.
الغرب يصارع من أجل احتفاظه بممتلكاته، بمناطق نفوذه التقليدية، بمصالحه الجيوسياسية في الدوائر الإقليمية المتدرجة من حوله حتى أبعد حدود العالم.
والشرق الأوسط، هو المدخل التاريخي الجغرافي للشرق العظيم الذي انتهب الاستعماريون القدامى ثرواته وأفكاره ليراكموا قاعدة الثورة الصناعية في أوروبا شبه القاحلة من أية حضارات ذاتية سابقة.
وخلال القرنين الماضيين لم يكن ثمة وجود سياسي فاعل عالمياً، ما عدا اليابان لفترة ما قبل الحرب الكبرى الثانية وخلالها، ومن ثم برزت الصين كقطب شيوعي كبير مقابل القطب السوفييتي، الأوراسي (ما بين أوروبا وآسيا).
وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية، أن تم التوافق بين كبارها المنتصرين على الانتهاء من عصر الاستعمار، الموجه كلياً إلى آسيا وأفريقيا منذ أواسط القرن التاسع عشر.
هكذا برزت عشرات الدول الجديدة القديمة على سطح السياسة الشرقية، دونما أن تكون لها فعالية في المجال الدولي. وكان من نصيب وطن العرب أن مُنح استقلالاً صورياً، منقسماً إلى عشرين كيانا ونيف، مما سوف يسمى بالدول المستقلة ذات السيادة.
وهذه هي المرة الأولى التي يعود فيها الإسم العربي مرجعاً وصفة لكيانات دستورية، محكومة بأسماء أخرى من أبنائها، وذلك بعد غياب عشرة قرون من تاريخ المعمورة.
لكن السؤال المتجدد، منذ بداية هذه العودة، يظل هو عينه: لماذا عاد العرب، وكيف، وإلى أين المصير الحديث.
صحيح أن هذا السؤال ليس شائعاً تداولياً. لم يشكل هماً عاماً، يسارياً أو يمينياً؛ لم يخطر ببال قادة الانقلابات أو النكسات، أو صانعي الحروب الأهلية الحارة والباردة.
ليس السؤال سفسطة زائدة عن اللزوم. كاد أن يكون متضَّمناً في تضاعيف كل الإيديولوجيات التي قادت تحولات الحقبة الاستقلالية.
لأنها كانت تطرح ذاتها كأجوبة على ذلك السؤال، دون أن تعبأ بالتصريح عنه. ذلك أن من طبيعة الإيديولوجيات أنها تلقي بالأجوبة الجاهزة على حساب طمس أسئلتها الأصلية.
ما يهمنا، هنا في عجالة (الرأي)، أن العرب يعيشون الخديعة الكبرى، أنهم عادوا إلى التاريخ، وأنهم صاروا (أمماً) أو شعوباً تسكن دولاً حرة مستقلة، وأنهم يشقون طريقهم نحو طليعة القافلة الإنسانية المتحضرة.
وفي هذا السياق لعبت بضعة أقطار عربية أدوارَ الرواد للمذاهب والأفكار وأنظمة السياسة والاقتصاد والحكم. وقد تميز لبنان ليس فقط بكونه بلد السياحة والترفيه، على أنواعه، لفئة أغنياء النفط والصحارى.
لكنه كان كذلك حقلَ التجارب الكارثية المعدّة له، وللتصدير إلى أشقائه. هذه الصورة النمطية عن لبنان الجميل، المركّب من تناقضات الظاهر والباطن كلها.
لا تزال تصارع ضد الصورة الأخرى لبلد المقاومة، المتجسدة في حادثتها الفريدة كونها، وهي المحققة لنموذج النصر العربي المفقود، على العدو الكلياني، كما هي المقاومة الممتنعة على الهزيمة حتى الآن، بيد هذا العدو وضد الكينونة العربية من ورائها قبل.
الحادثة الفريدة لهذه المقاومة، أنها وحدها من بين كل نماذجها السابقة والمعاصرة لها، فرضت الظرف الموضوعي للحظة تحرر العقل العربي من أعباء أو أحمال الأجوبة الجاهزة، المانعة أو الحاجبة لأسئلة الأصول.
وفي مقدمتها السؤال حول قدرة الأمة على استعادة هوية الأصل الكينوني لتاريخانيتها، في أن تكون أمة المقاومة، وليس أمة الهزيمة.
ما يريد أن يقمعه الغرب ليس (حادثة) المقاومة فقط، بل إرادة المقاومة؛ وذلك عندما تدرك (الأمة) أنه ليس من هوية لذاتها، ولا من شرط مشروع لحضورها، إلا هوية الأمة المقاومة، وألا تكون أفعالها العامة والفردية إلا مناسبات يومية لجعل المقاومة طريقة حياة إنسانية، وليس سياسية أو نضالية فحسب.
لبنان اليوم يعكس النموذجين المتضادين تماماً: مجتمع التماسك والالتزام بالمصير العام، ومجتمع التحلل البنيوي والاستسلام.
فالليبرالية، في نسختها العالمثالثية المتحللة من أبسط ضوابطها الاقتصادية والقانونية، وبالتالي الأخلاقية، تراهن على استئصال ما تبقى لدى الأجيال الصاعدة من نوزاع الاهتمام بالشأن العام، فتدفع بالشبيبة إلى انتهاز أضيق المصالح الآنية خلال يوم العمل، والانكفاء في الليل إلى معاقرة أسباب اللهو غير المبرأ من فواحشه المبتذلة.
فالمدن العربية (المتحضرة)، وبيروت مثالها الأوضح، هي مدن للأبنية الشاهقة المكدَّسة في حوافي شوارعها، ولملايين السيارات، وأضخم مجتمعات الأسواق الاستهلاكية.
وأما الناس في هذه المدن الافتراضية، فباتوا يندرجون في أسفل درجات الاهتمام: فهم السكان من الدرجة الرابعة أو الخامسة، لما بعد سكانها الجدد، من الأبنية والأسواق والسيارات والفنادق، ومرابع اللهو والعربدة.
انتهى الوطن إلى مربعات (سياحية) حتى للنخب من أبنائه، هنالك سلم من القيم والاعتبارات والمقاييس العامة والفردية مختلفة أصبحت تستحوذ على عقول ومسالك الفئات الموصوفة بالفاعلة، والموجهة في مختلف ميادين هذه (الحياة الجديدة العصرية).
وفيها تغدو أتفه وأضيق الانتماءات الجمعانية، محركاتٍ فوريةً لما تبقَّى من صيغ المسالك العامة، المسوَّغة ببعض مفاهيم السياسة الأشد تسطيحاً وغلواً في آن معاً.
ومع ذلك يظل العنف كامناً وراء أكوام القش الجاف، من هذه الكتل الجماهيرية المجوفة، بانتظار شرارة النار، المشعة من شمس تموز العربية، المتخصصة بمواعيد ثورات العرب أيام زمان المنقضية؛ لقد أصبح (العنف الثوري) محاصراً مهدداً، بأشكال العنف البدائي، بالفتن الطائفية والمذهبية.
فالمقاومة التي لم ينتصر عليها التآمر السياسي الداخلي، ولا العدوان الإسرائيلي الأمريكي بعده، يأتي عليها أخيراً ما يسمى بالعدوان الدولي (القانوني).. مرتفقاً بالفتنة المحلية والإقليمية الجامعة لكل من العدوانين السابقين.
وفي الوقت عينه فإن رهان الفتنة هذه المرة ينصب على إعادة حشر المقاومة في القالب المذهبي البحت. فلن تكون هي مقاومة الاستقلال الوطني في آخر خطوط دفاعه الشعبية.
ولا هي مقاومة الأمن القومي للأمة العربية جمعاء، بعد أن تخلى عن أبسط معانيه كلُّ جيوش دولها وحكوماتها.
الفتنة المفبركة القادمة هي الذروة المنتظرة لهرم الفتنة الكبرى المبتدئة باغتيال زعيم سياسي معين، كمدخل لاغتيال شعب وتحويله إلى قطعان من ناحرين ومنتحرين.
لكن العصر المقاوم العربي والإسلامي، شكلت حادثاته الاستثنائية إرهاصات نحو عصر العد العكسي لانهيار الإمبراطورية الأمريكية عسكرياً، وانسحابها المحتوم من بقاياها في القارة العربية والإسلامية.
هذه الجولة الأخيرة من زحف القاتل الإسرائيلي الحقيقي نحو حتفه بظلفه، كما يقول المثل العربي، لن تأتي عليه وعلى سيده الأمريكي، وحليفه الإقليمي المستعرب، إلا بما كانت تراكمه الجولاتُ السابقةُ من عوامل الفشل البنيوية، وغير اللوجستية فقط.
غير أنه في هذه المرة فما يسمى بالعدالة الدولية هي التي ستكلل رأسها بغارٍ من الشوك والعوسج وحده، كما كان دأبها دائماً في تجاربها الفاضحة مع حقوق الشعوب المضطهدة في كل مكان.
لسنا نحن وحدنا من يتوقع المحصول البائس لهذه المؤامرة (القضائية) الكبرى. فالغرب نفسه أمسى فاقداً لعبقرية الدهاء الدبلوماسي لحكامه.
لم يعد يرى فيهم سوى سماسرة صغار لمصانع المال والحروب والكوارث المبرمجة. فإن اصطناع جبهة دموية أخرى في هذا المشرق، وفي لبنان، الذي يحبه أهل الغرب كما يدعون دائماً..
لن يحقق أية نقلة نوعية فيما أصبح يردده مثقفوه عن ظهر قلب، حول حتمية زوال الغرب القديم البربري وزبائنه المفضلين من الصهاينة وأشباههم متأملين بميلاد غرب آخر، مُعافى من كل آثامه المتوارثة..
وربما كذلك، صار مجرداً من عناصر قواه الأصلية..إلى الأبد!
*مفكر عربي مقيم في باريس جريدة القدس العربي 2/8/2010