نقلا عن / جريدة دار الخليج نمت في العقدين الأخيرين من الزمن صناعة ناشطة في بعض دول الغرب موجهة إلى الأسواق العربية. وتمكنت هذه الصناعة من إقامة فروع في أكثر من بلد عربي. وبفضل الوكلاء الناشطين والشركاء الفاعلين أمكن لأصحاب هذه الصناعات الترويج لمنتجات هذه الصناعة واقتحام الأسواق العربية بنجاح ملحوظ، وأقيمت في بعض الأحيان صناعات محلية كرديف وشريك للمصانع الأم. هذه الصناعة التي أغرقت المنطقة العربية بمنتوجاتها وسط حملات إعلامية وإعلانية مركزة تدعى “صناعة دفن العروبة”. ورغم النجاحات التي حققتها، فإن هذه الصناعة تعاني من مشكلة عصيبة. إنها مشكلة العلاقة الجدلية بينها وبين العروبة. إذا قضي الأمر وانتهت العروبة، تفقد الشركات الكبرى المختصة بهذا النوع من الصناعة وبحفر قبور الشعوب وباستغلال ثرواتها ومواردها البشرية والطبيعية، اهتمامها بالمنطقة العربية فتسحب استثماراتها من هذه الصناعة. عندها، تدفن الصناعة إياها، فيقضى عليها وعلى سائر الصناعات وصنوف التجارة التي نشأت في فيئها، ويقضى على أصحابها بالإفلاس وعلى وكلائها بالبطالة وعلى تجارتهم بالبوار. بتعبير آخر، صناعة دفن العروبة تحيا مع العروبة وتذهب معها. إذا كان هناك من مجال للرأفة بأرباب هذه الصناعة والمنخرطين فيها، فلهم أن يطمئنوا إلى أن الحاجة التي دعت إلى قيام صناعتهم لا تزال موجودة. فالعروبة لا تزال حية ترزق. فلا يزال المغربي يرفع رأسه اعتزازاً إذا حققت المقاومة العراقية انتصاراً على قوات الاحتلال. ولا يزال الكويتي يتابع بشغف أنباء الانتخابات والتطور الديمقراطي في المغرب، ولا يزال السعودي يتألم ويحزن لمعاناة شعب فلسطين. ولا يزال العرب أينما كان يتطلعون إلى توطيد العلاقات الأسرية بين دولهم وبلدانهم. كل ذلك يعني أن العروبة لا تزال حية، ولكن هل هي بخير؟ هنا أيضاً، من الممكن لأرباب صناعة دفن العروبة الاطئمنان إلى أن جهودهم لم تذهب كلها سدى. فالعروبة ليست بخير. من يقول عكس ذلك يكون مكابراً. فمن المكابرة أن نقول إن العروبة هي اليوم بخير بينما هي على حالها الراهن من الانحسار في بلد مثل لبنان. ومن المغالطة أن نقول إن العروبة بخير بينما هي تعاني التراجع في مدينة مثل بيروت، فتنتشر فيها الأفكار والنظريات المحلوية ومنتجات العداء للعرب الآخرين والاستهتار بالعروبة. ومن المكابرة أن يقال إن العروبة بخير عندما تصاب بأعراض مرضية في بلد وعاصمة عرفا هذه الفكرة وكانا معها لأجيال. إن تاريخ لبنان وبيروت مع العروبة الحديثة يعود إلى ما يزيد على القرن من الزمن. ففي لبنان وبيروت تبلورت الفكرة العربية.. وفي لبنان وبيروت اقترنت العروبة بالديمقراطية وبالمبادئ الدستورية والنيابية. قادة السياسة والفكر في لبنان وبيروت لعبوا دوراً مهماً في صياغة برنامج إنقاذي عروبي وديمقراطي للإمبراطورية العثمانية. وفي لبنان تكونت جميعات ومؤسسات حضنت هذه المشاريع والأفكار، مثل جمعية الإصلاح البيروتية التي انتقلت إلى المدن العربية الأخرى مثل نابلس وحلب والبصرة، حيث تأسست جمعيات اقتبست برنامجها وطرق عملها. ومن بيروت انطلقت فكرة عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913. ومن لبنان خرج عدد من القادة العرب الذين ساهموا في تأسيس حزب الحرية والائتلاف العثماني الذين دعا إلى تحصين الامبراطورية عن طريق تحويلها إلى دولة تركية-عربية. وفي مرحلة النضال ضد الاستعمار، وفي المرحلة العربية اضطلع اللبنانيون بنفس الدور لسنوات كثيرة وحتى عهد قريب من الزمن، حتى دخلت العروبة الحديثة في خط انحداري في المنطقة، فتراجع الدور العروبي للبنان وتقلصت العلاقة المميزة التي كانت تربطه بالعروبة، فلماذا هذا التراجع وكيف الخروج منه؟ إن الإجابة عن هذه الاسئلة تقتضي أبحاثاً مطولة، ولكن حسبنا من ذلك أن نقترح بعض العناوين الرئيسية التي تساعدنا على اكتشاف الطريق إلى تجديد عروبة لبنان وإخراجها من واقعها الراهن. لعروبة لبنان، كما قلنا اعلاه، جذور ديمقراطية متينة. المطلوب هو إعادة اكتشاف علاقتها التاريخية بالديمقراطية، وتعميقها بالفكر وترسيخها بالسلوك السياسي. وعلى هذا الصعيد فمن الضروري التأكيد على انه ليس لعروبة لبنان أن تعتذر عن سياسة لا تقرها، أو عن نظرة لا تعتنقها. العروبة المناهضة للديمقراطية لها عناوين ورموز وسياسات وأماكن إقامة ومراكز عمل. من أراد كسب ودها أو التحاور معها أو الانتساب اليها أو محاسبتها أو الانتقام منها فليطرق بابها هي حيث موجودة، وليتحدث إلى من ينطق باسمها ويملك أمرها وليدع عروبة لبنان وشأنها. وعروبة لبنان هي خيار يومي والتزام مستمر وإدراك لأهمية التعاون مع الاشقاء ولموجباته. انها في الدفاع استعداد وجهوزية من أجل الدفاع عن لبنان وعن ثرواته. انها توظيف لقدرات لبنانية مجلية وكامنة في شبابه البواسل كما شهدناها في حرب تحرير الجنوب عام 2000 وحرب الصيف الفائت، وكما شهدناها في موقعة مخيم نهر البارد. وعروبة لبنان هي بناء سد منيع أساسه القوات المسلحة اللبنانية والمقاومون اللبنانيون البواسل في وجه أي عدوان على الأراضي اللبنانية، وبوجه التوسعية “الاسرائيلية”. إنها في الاقتصاد إسهام متواصل من أجل إنجاح منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، ولتطويرها إلى اتحاد جمركي عربي فإلى سوق عربية مشتركة. إنها برنامج للتعاون الاقتصادي العربي مستمد من تجاربنا ونظراتنا نصوغه ونقترحه على القمة العربية الاقتصادية القادمة على الطريق. وحتى تحتل العروبة مكانتها في المنظومة الفكرية والسياسية في لبنان، فإنه من المفروض أن تكون منسجمة مع نفسها. فعندما تقف عروبة لبنان ضد الاحتلال فإنها ضده في لبنان مثلما هي ضده في العراق وضده في سوريا. بل إنها ضد احتلال أراضي الغير في أي مكان في العالم. عروبة لبنان لا يسعها أن تكون ضد المحتلين في لبنان، وأن تساندهم أو تسكت عنهم في العراق في سوريا. العروبي اللبناني لا يستطيع ان يكون ضد الاحتلال في لبنان، حتى إذا ذهب إلى العواصم الكبرى والصغرى تحول إلى مظاهر أو محرض على احتلال أراضي الدول العربية الاخرى. وعروبة لبنان هي عروبة استقلال وحرية وكرامة. إنها من نتاج تجارب اللبنانيين السياسية، وهي وليدة حاجاتهم الإنسانية وحافز لتطلعاتهم السيادية. إنها ليست هوية مستعارة ولا انتماء مستورد. إنها إسهام في تنمية النظام العربي الإقليمي بالتفاهم مع الاشقاء وليس انصياعاً لهم. بين اللبنانيين والعروبة طريق مفتوح وسريع. اللبناني لا يحتاج إلى تأشيرة حتى يصل إلى العروبة ولا إلى ادلاء حتى يقودوه على درب التعاون والتضامن والتكاتف بيننا وبين الاشقاء. العروبة في لبنان، مثل العروبة في الدول والمجتمعات العربية الأخرى، في حاجة إلى وقفة جادة تستعرض فيها التجارب التي مرت بها، والاختبارات التي تعرضت لها. انها تحتاج إلى مراجعة أمينة يتم فيها تقييم إنجازاتها وإخفاقاتها، وبلورة دروسها وعبرها. هذه المراجعة الأمينة والجريئة هي مقدمة لا بد منها من أجل إحياء دورها في السياسة العربية. إحياء هذا الدور يخدم مصالح العرب ويقربهم من تطلعاتهم المشروعة. انه فضلاً عن ذلك يخلص “صناعة دفن العروبة” من الدفن.