في تصفحي للأخبار والتعليقات السياسية التي قيلت بصدد محاولة وصول سفينتين صغيرتين (تحملان مساعدات طبية رمزية) لشاطئ مدينة غزه، بهدف كسر الحصار المفروض على القطاع منذ يونيو 2007 ، فاجأني خبر مفاده أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، عبر عن أمله في أن يكون وصول هاتين السفينتين، هو بداية لرفع الحصار الظالم المفروض على القطاع والذي يشارك هو نفسه في فرضه !!!.
العارف بمواقف هذا الرجل من الحصار، لا يستطيع أن يبدأ تعليقه على هذا الخبر بعبارة "غريب أمر هذا الرجل". فالكل يدرك فحوى المواقف المتناقضة التي يتعمد عباس صنعها بشأن هذا الحصار وغيره من القضايا التي تهم الشعب الفلسطيني. فقد درج على أن لا يعطي أية اهتمامات فعلية، أو يبدي أية ردود فعل إيجابية، أو تهزه أية مشاعر وأحاسيس إنسانية، حيال ما تجرُّه تلك المواقف من مآسي على الشعب الفلسطيني الذي يفترض ان يحافظ على مصالحة لا أن يصرف النظر عنها. فالبداية الصحيحة للتعليق على مواقف هذا الرجل من القضية الفلسطينية بعامة ومن مسألة الحصار على غزه بخاصة هي : "من الطبيعي أن ..... "
فأقل ما يوصف به هذا الرجل – والحال هذه - أنه :إنسان فقد كل مقومات الاهلية ليكون رئيساً ليس للشعب الفلسطيني فحسب، وإنما لأي مؤسسة تستهدف العمل لصالح القضية الفلسطينية.
الدكتور محمود الزهار أحد قياديي حركة حماس المكلوم بفقد اثنين من أبنائة على يد الصهاينة، قالها صراحة: إن عباس هو الذي لا يريد فتح معبر رفح الذي يعتبر الشريان الحيوي الوحيد لقطاع غزه للتواصل مع محيطه العربي والعالم، وإن موقف مصر من هذا الموضوع كان واضحاً حيال هذه المسألة، وهو أن فتح المعبر مرتهن بالتفاهمات التي تقضي بقيام السلطة الفلسطينية في رام الله بتولي إدارة المعبر، ما يعني أن مسألة فتحه في النهاية، تعود لموافقة أو رفض محمود عباس.
هنا لا يستطيع المرء إلاً أن يعود لتقويم أفعال هذا الرجل (أعني عباس) ومواقفه حيال القضية الفلسطينية بعامة، وحيال الفصائل الفلسطينية التي تتخذ من مبدأ المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي منهاجاً لعملها لدحر هذا الاحتلال بصورة خاصة. ولعل من أخطر تلك الأفعال والمواقف:
1- مشاركة عباس الفاعلة في صياغة بنود اتفاق أوسلو المشئوم عن الجانب الفلسطيني، والذي ينص في أحد بنوده على الاعتراف بالكيان العبري الذي أقيم عام 48 على أنقاض المدن والقرى والأراضي الفلسطينية التي اغتصبتها العصابات الصهيونية، بمساعدة فاعلة من قوات الانتداب البريطاني.
2- إعلانه دون تردد أن المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، هو الطريق الأمثل الذي يمكن الفلسطينيين من الحصول على حقوقة، وبالتالي فهو يُعتبر - في نظره - الخيار الاستراتيجي الوحيد في التعامل مع الكيان العبري بشأن القضية الفلسطينية. ويصر صاحبنا (عباس) على موقفه هذا بالرغم من رفض المفاوض الإسرائيلي حق العودة ، ورفضة الانسحاب لحدود ما قبل الخامس من حزيران 67 ، وإصرارة على أن تكون القدس عاصمة إسرائيل الأبدية .. وما إلى ذلك من الشروط المجحفة.
3- مواقفه المعادية لمبدأ المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لدرجة وصفه للعمليات العسكرية التي تنفذها فصائل المقاومة سواء في الأراضي المحتلة أو داخل الخط الأخضر، بأنها عمليات إرهابية يجب مقاومتها وملاحقة عناصرها وتقديمهم للمحاكمة. وهذا ما صرح به علانية في مؤتمر العقبة بحضور شارون وبوش، وزاد على ذلك بأن أرسل تعازية للأسر اليهودية التي قتل أبناؤها في عملية استشهادية تصادف وقوعها وقت انعقاد مؤتمر العقبة، في الوقت الذي لم يرسل تعازية لأسر ستة عشر شهيداً فلسطينياً تصادف أن دمرت إسرائيل البناية التي كانوا يقطنونها على رءوسهم في غزه في الوقت ذاته.
4- مواقفه المؤيدة للتيار الانقلابي في فتح الذي يبدو أن العميد محمد دحلان القيادي البارز في حركة فتح كان يتزعمه، كما كان مسئولاً عن المؤسسات الأمنية في قطاع غزه. وقد أثبتت الأحداث أنه (دحلان) كان وراء الفوضى الأمنية وعدم الاستقرار الذي ساد القطاع، منذ تولت حماس رئاسة الوزارة عقب فوزها في الانتخابات التشريعية التي جرت في يناير 2006.
وحين شعرت قيادة حماس بأن الأمر دخل مرحلة التآمر على وجودها ذاته، وعلى حكومة الوفاق الوطني التي كانت ترئسها، قامت بالاستيلاء على السلطة بالقوة وقضت على الفلتان الأمني الذي كان يقض مضاجع سكان القطاع، كما قضت على الفساد الذي كان مستشريا في مؤسسات السلطة وبين قياداتها بصورة وبائية.
5- ش برغم كل الوقائع الموضوعية التي تشير إلى عدم جدوى المفاوضات التي يجريها عباس مع الكيان العبري، فإنه ما زال سادراً في قوله بأن المفاوضات المباشرة هي السبيل الوحيد لحل القضية الفلسطينية. والحقيقة أن المرء لا يعرف كيف يمكن أن يتم هذا الحل عن طريق التفاوض، والحقائق على الأرض تقول بأن حكومتى أولمرت وعباس، ليستا مؤهلتين لمجرد عقد مفاوضات حول القضية الفلسطينية.
فأولمرت يخضع لتحقيقات متتالية بشأن تورطه في قضايا فساد، ما دفعه للإعلان عن نيته الاستقالة من منصبة في سبتمبر القادم. وعباس الذي تنتهي مدة ولايته بعد سنة تقريباً، لم يستطع هو وكل جماعة فتح أوسلو أن يحققوا أي إنجاز للشعب الفلسطيني نتيجة مباحثاتهم مع الكيان العبري، منذ بدأت (تلك المباحثات) مع التوقيع على اتفاق اوسلو عام 93 وحتى الآونة. بل إن الأحوال على صعيد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى صعيد القضية الفلسطينية ذاتها، قد تطورت من سيء إلى أسوأ، والكل يدرك معنى هذا القول.
6- يعلم عباس جيداً قبل غيره، أنه لا يستطيع أن "يحل أو يربط" كما (يقول المثل)، بشأن القضية الفلسطينية. فالملاحظ أثناء ولايته وما قبلها، أن كل ما كانت تعلن عنه الدوائر السياسية في واشنطن حول هذه القضية، كان وحكومته وأتباعة من قادة فتح أوسلو يسارعون لتبنيه بالكامل ودون مناقشة.
7- يعلم عباس أن الشعب الفلسطيني غير منقسم على نفسه بشأن المواقف الذي ينبغي أن تتخذ حيال الكيان العبري، والذي لا يفهم غير لغة المقاومة المسلحة للتخلي عن الأراضي التي احتلها عام 67. وكما يعلم القاصي والداني في هذه الأمة، أن الأموال التي تغدقها الولاياتالمتحدة على ثلة من قيادات فتح أوسلو وأتباعها، وكذلك الغطاء الأمني الذي يوفره لها المحتل الإسرائيلي، هما اللذان يبقيان الوضع المؤلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وبخاصة في ظل الحصار الشامل الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، وحالة فقدان الأمن التي تعيشها الضفة، نتيجة التنسيق الأمني بين عناصر الأمن الوطني التابع للسلطة وقوات الاحتلال الإسرائيلية الذي يشرف عليه الجنرال الأمريكي دايتون، والذي يستهدف ملاحقة رجال المقاومة الفلسطينة أيا كانت انتماءاتهم الفصائلية والعقائدية والقضاء عليهم.
وعودة للسفينتين اللتين استطاعتا اختراق الحصار المفروض على غزه، نقول: إن إسرائيل كانت في منتهى الذكاء حين سمحت لدخولهما بهذه السرعة. فهي تعلم أن ما تقومان به هو عمل رمزي دعائي قد يؤلب الرأي العام العالمي عليها إذا ما طالت ممانعتها لدخولهما شواطئ غزه. لذلك فقد سارعت بالسماح لهما بالدخول حتى تكفل انتهاء الحملة الإعلامية التي كان مخططا لها على أساس ممانعة إسرائيل لدخولهما مياه غزه، في أسرع وقت ممكن.
لكن يبدو أن عباس تصور أنه كان أذكى من إسرائيل والعرب والعالم كله، حين صرح بأن كسر هاتين السفينتين للحصار هو "بداية حقيقية لتحرك دولي وإنساني جدي نحو فك الحصار، وتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني في غزه"!!!!!!!!!!!!!!!!. وعجبي.