لم استطع بعد أن أكيف قناعتي وتفكيري مع أساليب التضليل ونصب المكائد وحبك المؤامرات التي يقوم بها أعداء الشعب الفلسطيني، حتى يحولوا دون ممارسه حقه في مقاومة الاحتلال الذي أقرته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والقرارات الأممية.
والقول ذاته ينطبق على أي حركة مقاومة أو تنظيم سياسي فلسطيني، يتخلى عن الثوابت الفلسطينية التي ضحى الفلسطينيون بزهرات شبابهم على مدي عقود طويلة من النضال من أجل التمسك بها، وأولها رفض الاعتراف بالكيان العبري الذي اغتصب الأرض الفلسطينية، وثانيها التمسك بمبدأ مقاومة الاحتلال، وثالثها لفظ كل الاتفاقات التي عقدها عرفات وعباس مع العدو الإسرائيلي في أوسلو، والتوقف عن الجري وراء سراب وعود بوش واللجنة الرباعية بشأن إقامة الدولة الفلسطينية (المسخ) التي وعد بها.
ففي آخر تصريحات صدرت عنه، دعا عباس المجلس المركزي المنبثق عن المجلس الوطني الفلسطيني، للانعقاد في عمان بهدف دراسة الوضع في قطاع غزه، بعد أن سيطرت عليه حركة حماس وأخلته من المفسدين الذين كانوا سبباً في نشر الفلتان الأمني وعدم الاستقرار في القطاع. وكان من الطبيعي أن يكون الهدف الأساس من هذه الدعوة، هو إحلال هذا المجلس محل المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب، واستخدامه في استصدار قرارات تبيح لعباس ومؤيديه، اتخاذ إجراءات من شأنها تشديد الحصار المفروض على حركة حماس وقطاع غزه وتأليب العالم ضدهما.
وحتى نتيقن من مدى شرعية القرارات التي يتخذها هذا المجلس، لا بد أن نعرف ما إذا كان يتمتع أصلاً بالشرعية أم لا، بمعنى .. هل تم انتخابه من الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات؟، أو .. هل انبثق عن مؤسسة فلسطينية أكبر تحظى بالشرعية، ونعني بها المجلس الوطني الفلسطيني؟.
الحقيقة التي يعرفها المعمرون من أبناء فتح وحتى المحدثون منهم، ولا تغيب عن أذهان الشعب الفلسطيني بكل أطيافه، هي : إنه لا المجلس الوطني، ولا المجلس المركزي، ولا حتى أعضاء اللجنة التنفيذية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطيني ، جرى انتخابهم بالأسلوب الديمقراطي الحر من قبل الشعب الفلسطيني، سواء في الداخل أو في الشتات.
فالذي حدث أن منظمة التحرير الفلسطينية تشكلت في ظروف استثنائية، كانت تفرض على الدول العربية إشراك الفلسطينيين أنفسهم في قضيتهم أمام الرأي العام العربي والعالمي، فعملت من جانبها على تكوين جيش نظامي فلسطيني أسمته جيش التحرير الفلسطيني. وكانت كتائب هذه الجيش تتشكل من أعداد محدودة من المتطوعين الفلسطينيين، وتوزعت بين بعض الدول العربية كمصر وسوريا والأردن والعراق، وتولي رئاسة هذه المنظمة فور تشكيلها المناضل الفلسطيني المرحوم أحمد الشقيري.
وحين وقعت نكسة عام 67، حاولت إسرائيل أن تكمل انتصارها في تلك الحرب الخاطفة، بشن هجوم على بلدة الكرامة الأردنية التي كان يرابط في محيطها رجال حركة فتح شرقي نهر الأردن. لكن القوة الإسرائيلية المهاجمة فوجئت بمقاومة عنيفة لم تكن تتوقعها، ما أجبرتها على التراجع الذي كان أشبه ما يكون بالفرار، بحسب ما ذكرته وكالات الأنباء آنذاك، بعد أن تكبدت خسائر لا يستهان بها.
وكان لهذه المعركة أثرها السحري في رفع الروح المعنوية لدى العرب، في الوقت الذي كانوا يعانون من شدة الصدمة نتيجة الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب 67، الأمر الذي استغله الراحل عرفات أفضل استغلال في الدعاية لحركة فتح، وفي محاولة الحصول على اعتراف الدول العربية في أحقية فتح برئاسة منظمة التحرير التي كان يرئسها المناضل المرحوم أحمد الشقيري.
وهكذا كان من الطبيعي أن تحظى حركة فتح على تأييد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ، حيث أعادت الروح للنضال ضد العدو لاسترجاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أولاً، ولاستعادة الأرض العربية التي احتلتها إسرائيل في حربها الغادرة عام 67 ثانياً.
وبغض النظر عما حدث منذ تلك اللحظة، سواء بالنسبة لاحتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين التاريخية (الضفة والقطاع) ، أو للأراضي العربية الأخرى التي احتلتها في حرب 67، وتجاهل ما انتهت إليه حرب الخليج الثانية من نتائج، كان من أبرزها عقد مؤتمر المصالحة في مدريد بين إسرائيل والدول العربية المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية وبخاصة سوريا والأردن والفلسطينيين ، فقد انتهى الأمر بمفاجأة لم تكن في حسبان الكثير من الفلسطينيين والشركاء العرب. فقد فوجئ الكثيرون بوصول عباس وعرفات مع مفاوضين إسرائيليين على اتفاق أوسلو، الذي مُنح العدو بموجبه صك الاعتراف، بشرعية قيام الكيان العبري على الأرض الفلسطينية التي اغتصبتها العصابات الصهيونية عام 48.
كما تعهد عرفات وعباس بموجب هذا الاتفاق بوقف المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، واعتماد المفاوضات المباشرة مع العدو خياراً استراتيجياً وحيداً لحل القضية الفلسطينية، .. كل ذلك مقابل وعود "وهمية" خطَّها العدو والغرب لزعماء فتح في اتفاق أوسلو، والذي شارك عباس نفسه في التخطيط له عن الجانب الفلسطيني (أعني عن الراحل عرفات وبطانته).
وعودة للمجلس المركزي المنبثق عن المجلس الوطني الفلسطيني، اللذين ما انفك عباس يستغلهما في إضفاء الشرعية على القرارات التي أصدرها وما زال يصدرها ضد حماس، بهدف تجريم الخطوة الحاسمة التي قضت بها على الفساد والفلتان الأمني الذي كان مستشرياً في القطاع بصورة مروعة .. وكشاهد على الفترة التي عدِل فيها تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني في زمن سيطرة عرفات، (والذي كان قد شكل عقب تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية) .. أقول عن يقين : إنه لم يحدث أن أجريت انتخابات ديمقراطية لأعضاء هذا المجلس، أو حتى استطلاع رأي المواطنين الفلسطينيين سواء في الداخل أو في الشتات على تشكيله أو إعادة تشكيله.
وإذا كان الشعب الفلسطيني قد سلم آنذاك بالطريقة التي تم بها إعادة تشكيل المجلس وما انبثق عنه من مؤسسات على النحو الذي جرى، فذلك كان بفعل الضرورة التي اقتضتها تلك المرحلة ، حيث أقر مؤتمر القمة العربي الذي عقد في السبعينات (على ما اعتقد) إحالة القضية الفلسطينية برمتها – لسبب أو لآخر - إلى منظمة التحرير الفلسطينية ، ما دفع بالدول العربية إلى إلقاء المسئولية كاملة على الفلسطينيين.
ويبدو أن الراحل عرفات وزعماء بعض فصائل المقاومة الأخرى المنافسة، كانوا ينتظرون بفارغ الصبر إقدام الدول العربية على اتخاذ هذه الخطوة، حتى يتفردوا في استغلال المجلس ومؤسساته على النحو الذي يخدم أغراضهم الحزبية وانتماءاتهم للبلدان التي كانوا يتمركزون فيها.
لكن سياسة التفرد باتخاذ القرارات التي اتبعها عرفات وأنصاره بشأن القضية الفلسطينية، بعد تشكيل السلطة الفلسطينية ورئاسته لها، بعيداً عن الدول العربية التي يصعب استبعادها عن الصراع مع العدو الصهيوني بعامة من ناحية، وبعد أن قامت إسرائيل وعملائها باغتيال الغالبية العظمى من مؤسسي حركة فتح وقادتها الشرفاء الذين عرف عنهم التمسك الشديد بالثوابت الفلسطينية من ناحية أخرى .. نقول : إن هذه السياسة أدت إلى رفض الفلسطينيين في الداخل والخارج للعديد من الإجراءات والقرارات التي اتخذها عرفات بشأن القضية الفلسطينية، كما أدت إلى ظهور خلافات حقيقية بين حركتي فتح وحماس التي شهد قطاع غزه والضفة ولادة الأخيرة، على يد الشيخ المجاهد المرحوم أحمد ياسين، طيب الله ثراه.
وكان من أخطر تلك الخلافات، توقيع عرفات وعباس على اتفاق أوسلو، متسلحاً بموافقة المؤسسات الفلسطينية التي شكلها أو أعاد تشكيلها، والتي كان له اليد الطولى في اختيار أعضائها ومعظمهم من رجال فتح، وهي تحديداً : المجلس الوطني، والمجلس المركزي المنبثق عنه، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقد أدى ذلك – على مدار سبع سنوات وأكثر – لمواقف وأحداث كادت تعصف بأخلاقيات مبدأ الكفاح المسلح الذي اعتمدته فتح في نضالها ضد العدو فور تأسيسها، لولا ظهور كتائب شهداء الأقصى عقب تفجر الانتفاضة الثانية عام 2000، والتي قدمت المئات من الشهداء من أجل مقاومة الاحتلال.
فحتى الأمس القريب تواردت الأنباء عن قيامها بزرع عبوة ناسفة لدورية إسرائيلية في الضفة، رغم ما قيل عن قبولها بإلقاء السلاح استجابة لقرار عباس بتجريد فصائل المقاومة من سلاحها، وبرغم ما قيل عن تقديم عدد من المطلوبين للعدو لا يتعدى عددهم المائة والتسعين، لتعهدات بعدم العودة لمقاومة الاحتلال.
والواقع أنه ظهرت فئة من القادة المحدثين، كان هدفها الأول أن تعصف بكل من يعترض على اتفاق أوسلو، وبخاصة كوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي.. وبلغ الأمر بهؤلاء أن قاموا بتسليم أعضاء من حماس للعدو، كما قاموا بإيداع العديد منهم في السجون وتعذيبهم وإذلالهم وحلق ذقونهم. بل انتهى الأمر إلى قيامهم بتشكيل "فرق الموت" التي اشتهرت بقتل واغتيال من يعارض توجهاتهم في السيطرة على الشارع الفلسطيني وتصعيد الفلتان الأمني فيه، بهدف إفشال حكومة الوحدة الوطنية المقالة التي كان يرأسها أحد قادة حماس، ومن قبلها حكومة حماس.
وهنا نتساءل : هل يحق لعباس أن يضفي خاصة الشرعية على القرارات التي اتخذها وقد يتخذها مستقبلاً، بشأن حماس والقضية الفلسطينية بعامة، استناداً لموافقة المجلس المركزي بتشكيله الحالي عليها؟.
فالمعروف أن حوالي نصف أعضاء المجلس الوطني الذي قلنا أنه لم ينتخب ديمقراطيا قد توفاهم الله ،وأن الباقين منهم تجاوزوا سن التقاعد أو بلغوا من العمر عتياً. كما لم يحدث أن التأم هذا المجلس منذ عقده في عمان قبل خمسة عشر عاما سوى مرة واحدة، حيث صفق أعضاؤه - الذين منحتهم إسرائيل بطاقة تحقيق الشخصية - للرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" (على ما يقول رئيس تحرير القدس العربي عبد الباري عطوان). فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للمجلس الوطني، فكيف يكون حال المجلس المركزي الذي يستمد شرعية وجوده (المزيفة) منه؟.
وليس بعيداً عن هذا السياق نتساءل : لماذا قام الراحل عرفات ومن بعده عباس، بتجميد كل المؤسسات الفلسطينية التي يريد الأخير الآن إعادة الروح إليها بعد موتها، متجاهلاً بل ومعلناً مؤخراً تخليه عما تم الاتفاق عليه في القاهرة في مايو عام 2005، والذي أوصى بإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على أسس سليمة وديمقراطية، بحيث تمثل كل فئات الشعب الفلسطيني، وحتى لا ينفرد بها فصيل واحد ومن لون واحد؟؟.
الشاهد أنه لم يحدث أن لجأ أي من الرجلين لتلك المؤسسات بعد تشكيل السلطة الفلسطينية، إلاّ حين كان يريد أحداهما تمرير قرارات بعينها، وكان معظمها يصب في صالح تنفيذ اتفاق أوسلو الذي وقعا عليه ، والتي كان معظمها بمثابة وفاء لاستحقاقات وتنازلات فلسطينية تجاه إسرائيل، دون أن يحصلا في المقابل على شيء من الاستحقاقات الفلسطينية التي نص عليه الاتفاق ذاته).
واليوم، وبعد أن اتخذ عباس قرارات خارجة على القانون الأساسي الفلسطيني الذي شارك هو نفسه في إقراره واعتماده، وشكل حكومة طوارئ لم يرد ذكر لشرعية تشكيلها في ذلك القانون .. وبعد أن ارتكب عباس مخالفة أخرى أشد وأغلظ، وهي تجميد ثلاثة نصوص منه بهدف التمديد لحكومة "السيناتور" سلام فياض وإضفاء الشرعية على تشكيلها، اعتماداً على إدراكه بقدرة كتلة فتح في المجلس التشريعي على تعطيله، ومن ثم قيام عباس بتمرير القرارات التي يصدرها بدعوى عجز المجلس على الالتئام ومزاولة مهامه بسبب غياب النصاب القانوني .. وبعد أن تجاهل القاعدة القانونية التي تقول بأن الحكومة التي يقيلها رئيس السلطة تبقى حكومة تسيير أعمال لحين تشكيل حكومة جديدة تحظى على موافقة المجلس التشريعي .. وبعد أن شكل حكومة طوارئ لم يرد ذكرها في القانون الأساسي كما أسلفنا ،،،
بعد كل ذلك نقول : إن ما يقوم به عباس ليس مقبولاً، وإن التأييد الذي يحظى به عربياً ودولياً، وزياراته لرئيس الحكومة الإسرائيلية والمسئولين الإسرائيليين الآخرين كشيمون بيريز ورئيسة الكنيست، إضافة للإجراءات التي اتخذتها إسرائيل وأمريكا ودول أوروبا لدعم عباس، وتشديد الحصار على قطاع غزه، ومنع المال والغذاء عنه، وحرمانه من الاتصال بالخارج وإقفال المعابر.. يدفعنا للقول بأن ذلك يدخل في عداد المؤامرة التي يتبناها عباس وزمرته بالاتفاق مع أمريكا وإسرائيل ضد حماس، وضد مليون ونصف المليون إنسان من الشعب الفلسطيني هم سكان قطاع غزه.
وكلنا يعرف الدور الذي لعبته إسرائيل في تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني منذ اللحظة التي فازت فيها حماس بالأغلبية المطلقة فيه، حيث قامت إسرائيل باعتقال نحو 45 عضواً من حركة حماس، وهو رقم يفقد الحركة الأغلبية المطلقة التي تتيح لها اتخاذ القرارات المناسبة التي تراها، ويصب في الوقت ذاته في صالح الأوسلوويين من حركة فتح.
ومما زاد الطين بلَّة، أن المجلس المركزي الذي التأم - مع الأسف - بحضور أحد مؤسسي فتح المخضرمين سليم الزعنون، لا يشك في أنه اعتمد جميع القرارات غير الشرعية التي اتخذها عباس بحق حركة حماس، ذلك الفصيل الفلسطيني الذي قام وما زال، بدور فاعل ومؤثر في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وساهم بفعالية عالية مع سائر فصائل المقاومة الفلسطينية في التمسك بالثوابت الفلسطينية، وفي إفشال مخطط شارون للقضاء على انتفاضة الأقصى خلال مائة يوم كما ادعى، كما أجبره على سحب جيشه من داخل قطاع غزه، وإن أبقى القطاع أسير الحصار. وفي المقابل، لم نسمع عن قرارات أصدرها هذا المجلس رفض فيها تصميم عباس على وقف المقاومة المسلحة للاحتلال ونزع سلاح فصائلها.
فما رشح من معلومات صحفية تفيد بأن المجلس المركزي قد انعقد في العشرين من يوليو الجاري، وإنه وافق على إجراء انتخابات شرعية ورئاسية مبكرة على قاعدة التمثيل النسبي في منظمة التحرير الفلسطينية ، ما يعنى استبعاد حركتي حماس والجهاد الإسلامي بالذات، وكذلك كتائب شهداء الأقصى واللجان الشعبية من تلك الانتخابات.
ولو أصر عباس على إجراء هذه الانتخابات، فإن الفشل سيكون حليفها، إذ من العبث استبعاد تلك الحركات من أية انتخابات فلسطينية تجرى، نظراً للثقل السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تتمتع به في الشارع الفلسطيني.