قطع المعونة الغذائية عن غزه.. هل وصلت الرسالة؟ بقلم موسى راغب
تظاهرات في غزة ضد الحصار في الأمس القريب، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين UNRWA التابعة لهيئة الأممالمتحدة، تعليق برنامج المساعدات الغذائية الذي أقر لإطعام اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبرهم الإرهاب الصهيوني على النزوح عن قراهم ومدنهم عام 48، بسبب إغلاق إسرائيل للمعابر التي تستخدمها شاحنات الوكالة في نقل المعونات للقطاع. وقد تزامن هذا الإعلان مع نفاذ إمدادات الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء الرئيسية في القطاع، نتيجة وقف إسرائيل لها، ما اضطر المسئولين في غزه إلى جدولة توزيع الكهرباء (التي تصل إليها عن طريق خط كهربائي من إسرائيل) على المناطق في القطاع، بواقع ثمان ساعات لكل منها. فمنذ أُعلن عن تأجيل الحوار الفلسطيني، لوحظ أن إسرائيل شرعت في تصعيد اختراقاتها لاتفاق التهدئة، حيث قامت بعدد من التوغلات أسفرت عن استشهاد العديد من عناصر المقاومة الفلسطينية والمدنيين، ما دفع بفصائل المقاومة وبخاصة حركة حماس إلى قصف المستوطنات اليهودية الحدودية والمدن القريبة من القطاع بالصواريخ، وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة للرد على توغلات العدو في القطاع. وبرغم ادعاءات المسئولين الإسرائيليين، بأن هذه التوغلات جرت بهدف تدمير أنفاق كانت عناصر المقاومة تقوم بحفرها للقيام بعمليات اختطاف لجنود إسرائيليين، وكذلك ضرب منصات إطلاق الصواريخ الفلسطينية .. غير أن العديد من المراقبين يجمعون على أن السبب الحقيقي لهذه التوغلات يعود إلى طلب حماس وفصائل أخرى تأجيل الحوار الذي كان مقرراً بدءه في العاشر من نوفمبر الجاري في القاهرة، والذي كانت إسرائيل تأمل من ورائه دعم موقف عباس، الذي يعتبر- في نظرها- أنموذجاً للمفاوض الفلسطيني الطيِّع، الذي تتطابق مواقفه وتوجهاته السياسية مع الأجندة الصهيوأمريكية الخاصة بحل القضية الفلسطينية. أضف إلى ذلك أن إسرائيل كانت تهدف من وراء منع وصول الإمدادات الغذائية لنحو 750 ألف لاجئ فلسطيني في القطاع، إلى تضييق الخناق على حركة حماس وعلى أهالي القطاع الذين ظلوا على تأييدهم لها، ودعم موقفها المناهض لأسلوب التفاوض المهين الذي تنتهجه سلطة عباس في رام الله مع الإسرائيليين. ففي سنوات الهجرة التي قضاها الإنسان الفلسطيني سواء في القطاع أو الضفة، والتي امتدت لأكثر من ستين عاماً، كانت هذه المعونات هي المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه، بعد أن استنفذ المدخرات القليلة التي استطاع أن يخرج بها دون أن يفطن اليهود لها ويستولون عليها. وهذا يعني (بكل بساطة) أن الجوع الذي يتبعه المرض ثم ينتهي بالموت المحقق، هو النتيجة الحتمية ل "قطع أو تعليق أو منع تلك المعونات" (سيان)، من الوصول بانتظام لسد حاجة اللاجئين اليومية، والبالغ عددهم في القطاع وحده نحو 750 ألف لاجئاً. وليس في هذا القول مغالاة أو تهويل .. فالبطالة منتشرة بين سكان القطاع، والادخار معدوم لديهم، والمعابر التي يمكن أن تفك ضائقتهم (ولو قليلاً) أصبحت محكمة الإغلاق. وحتى المساعدات المالية التي كانت تصل لبعضهم من الأقارب الذين يعملون في الدول العربية، باتت تلقى صعوبات جمة حتى تصل إليهم، بسبب إجراءات بالغة التعقيد .. هدفها الوحيد تشديد الحصار المفروض على القطاع. في مقابل هذا الواقع المرير، نجد أهل الثراء في العالم العربي يتقبلون خسارة (مائة مليار) دولاراً في أسبوع واحد نتيجة ثقتهم بأعداء هذه الأمة، بينما لم يحدث أن قاموا بمبادرة جادة من أجل رفع المعاناة عن أولئك الذين يرفضون الخضوع للعدو الإسرائيلي، ويتبنون المقاومة المسلحة سبيلاً لدحر العدوان عنهم وعن الأمة بكاملها. بل ها نحن نرى الجامعة العربية وهي توجه لهم التهديد والوعيد، إذا ما حاولوا إعاقة الحوار الذي يريد عباس وقادة أوسلو من ورائه، إجبار حركات المقاومة التي تتصدى للعدو الإسرائيلي، على التخلي عن الثوابت الفلسطينية واتباع النهج الاستسلامي الذي تسير عليه السلطة ومن والاها في التفاوض مع الكيان العبري. وهكذا نرى أن ما يتمناه الأوسلوويون ومؤيدوهم من العرب، أن يقوم أهل القطاع بانقلاب على حماس وفصائل المقاومة الأخرى، التي باتوا- مع الأسف- ينظرون إليها على أنها أخطر من الوجود الإسرائيلي ذاته الذي قسم الوطن العربي الكبير لشطرين. وهذه أمنية إسرائيلية وأمريكية وأوروبية، قبل أن تكون أمنية لعباس وقادة فتح أوسلو وغالبية الدول العربية. أما لماذا؟ .. فهذا أمر يطول شرحه. نشطاء يدافعون عن الفلسطينيين ما يريد الإنسان الفلسطيني والعربي أن يوجهه الآن لكل من يتجاهل معاناة أهالي القطاع بسبب الحصار المفروض عليه .. ولكل من يقلل من شأن التهديدات بقطع المعونات الغذائية والدوائية والكهرباء عنهم، ولكل من يحاول التقليل من شأن المقاومة التي يبديها الشعب الفلسطيني في التصدي للغزوة الصهيونية لأرض فلسطين .. ولكل من يطالبه بالتنازل عن ثوابته التي لا تستهدف سوى إعادة الحقوق المشروعة والأرض المسروقة لأهلها .. على هؤلاء أن يكونوا على يقين من أن الفلسطينيين، لن يركعوا أبداً للواقع الذي فرضه الغرب بعامة وأمريكا بخاصة عليه، سواء في قطاع غزه أو في الضفة أو في أرض الشتات. فإذا كانت الظروف العربية والدولية لا تسمح في هذه المرحلة، باستعادة كامل التراب الفلسطيني من الصهاينة .. فهذا لا يعني التخلي عن هذا المطلب (الحق)، مهما كان الثمن، ومهما امتد الزمن. فليس من المنطق في شيء أن يسلم الإنسان بسرقة أرضه، ويعترف للسارق بشرعية ما سرق. فإذا كان رئيس السلطة محمود عباس وبمباركة من رئيسه الراحل عرفات رحمة الله عليه، قد قبلا بهذا الواقع المشين حين وقعا على اتفاق أوسلو الذي لم يخلف سوى العار والخراب والدمار للفلسطينيين وقضيتهم، واعترفا بالكيان العبري .. فليس هناك ما يجبر الشعب الفلسطيني على القبول بما وقعا عليه. فلا بد أن يأتي اليوم الذي تتمكن فيه هذه الأمة من استعادة أرضها المقدسة التي دنسها الصهاينة. "فدوام الحال من المحال". وكم من حضارات (وليس دول أو حكومات) سادت ثم بادت. وإسرائيل بل وحليفتها أمريكا، لن يكونا استثناء من هذه القاعدة. أما محمود عباس وأعوانه، ومعهم الجنرال الأمريكي دايتون .. فليتذكروا جيداً أن "ما من حق ضاع ووراءه مطالب". والفلسطينيون لن يقبلوا بضياع حقوقهم، طالما ظلت مقاومتهم للاحتلال وأعوانه قائمة. وليأخذ هؤلاء وغيرهم ممن يسيرون في ركب أمريكا ودول أوروبا، عبرة مما حدث لأكبر قوة عسكرية واقتصادية وسياسية في العالم. فلو أمعنوا النظر (للحظات) في الأسباب الحقيقية لهزيمة أمريكا، في الحروب المعلنة منها والخفية التي شنتها وما زالت تشنها على العراق وأفغانستان ومنطقة وزيرستان في باكستان، لأدركوا أن مشروع المقاومة العربية والإسلامية، هو الذي هزم اقتصادها وقوتها العسكرية، وهو الذي سيبعدها- لا محالة- عن زعامة النظام العالمي (الذي حاولت أمريكا تثبيته منذ انهيار الاتحاد السوفييتي دون جدوى)، وبخاصة إذا ما استمرت السير على نهج بوش والمحافظين الجدد في معاداتهم للإسلام والعرب والمسلمين. ولسنا بحاجة للتدليل على ذلك، التذكير بأن المبلغ الذي خصصته الإدارة الأمريكية لمعالجة حالة الانهيار الذي تعرض له النظام المصرفي في أمريكا، والذي يكاد يطيح باقتصادها بل وبالنظام الرأسمالي العالمي كله، والبالغ 700 مليار دولاراً، هو ذات المبلغ الذي انفقته أمريكا في حربها على العراق وأفغانستان. بل إن فشل أمريكا الذريع في هذه الحرب، دفع بقوى عالمية أخرى للاستقواء به، من أجل إفشال محاولة إدارة بوش جعل القرن الحادي والعشرين هو القرن الذي تسود فيها أمريكا العالم. وهذا ما تمثَّل في الموقف الصارم الذي اتخذته روسيا الاتحادية (الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي المنهار) من الحرب الجورجية التي كانت أمريكا وإسرائيل المحرض الرئيس على نشوبها، كما تمثل في موقف التنين الأصفر المترقب، من الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها أمريكا في عهد إدارة بوش وعصابة المحافظين الجدد. نقول هذا لاعتقادنا الجازم بأن كل ما أصاب الشعب الفلسطيني بخاصة والشعوب العربية والإسلامية بعامه، من كوارث ونكبات أعاقت مسيرة التنمية فيها .. كان من صنع الولاياتالمتحدة التي تمثل المانع المادي الحقيقي، لدرء مخاطر استمرار وجود الكيان الصهيوني في هذه المنطقة وانحيارها السافر له. وإذا كان هذا الكيان يعتقد- بمنعه وصول المعونات الغذائية والدوائية وغيرها لأهالي القطاع- بأنه قادر على إجبار الشعب الفلسطيني على القبول بشروطه لحل القضية الفلسطينية .. فهو واهم. فاليهود بعامة، والمعمرون من الجنرالات الإسرائيليين الذين ساهموا بالجهد الرئيس في إقامة الكيان العبري على الأرض الفلسطينية المغتصبة بخاصة، يدركون تماماً أن هذا الشعب لن يرضخ لمثل هذه الضغوط القميئة .. وإنه قادرٌ على المقاومة لعقود أخرى طويلة، أملاً في طرد الصهاينة من أرضه. فهؤلاء الجنرالات عايشوا إضراب الشعب الفلسطينيين طيلة ستة أشهر متتالية، وشاهدوا تصديهم الصارم لمائة ألف جندي بريطاني جاءوا لمواجهة الثورات الفلسطينية المتلاحقة، التي قامت احتجاجاً على السماح ليهود أوروبا بالهجرة لفلسطين وتوطينهم فيها، خلال فترة الانتداب البريطاني التي انتهت عام 48. إن محاولتنا هنا تذكير الأمة العربية بواجباتها نحو تحرير الأرض المقدسة من دنس الصهاينة سواء في غزه أو الضفة أو الأرض المحتلة عام 48، لا تنطوي على صراخ أو عويل أو استدرار العطف أو الشفقة. فهذه أمور بعيدة كل البعد عن تفكير الفلسطينيين وعناصر المقاومة الفلسطينية الذين يطلبون الشهادة في سبيل الله والوطن، والذين يرفضون إلقاء السلاح برغم الضغوط التي تمارس عليهم من قبل المؤسسات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، والتي دأبت- لأسباب معروفة- على التعاون مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة، ومع المنسق الأمني الأمريكي الجنرال دايتون في هذا الشأن. ويكفي للتدليل على ذلك، موقف الأمهات اللائي "يزغردن" حين يستشهد أبناؤهن من أجل الدفاع عن الوطن. فمحاولة التذكير هذه .. إنما هي دعوة لهذه الأمة كي تفوق من سباتها، وتنهض من كبوتها، وتدرك جسامة الأخطار المحدقة بها، والتي كاد يتحقق الكثير منها خلال ولاية بوش وشارون، لولا تصدي رجال المقاومة الفلسطينية وقوافل الشهداء بعزم للخبائث من أهداف إسرائيل وأمريكا، وللكبائر من أفعال الضالين المؤيدين للأجندة الصهيوأمريكية لحل القضية الفلسطينية. سفن كسر الحصار تتوافد على غزة فهذه الأزمة وأزمات أخرى أشد وأقوى قادمة، سوف تلقى ذات المصير الذي لقيته سابقاتها، وهو الفشل الذريع في تحقيق أهداف أعداء هذا الشعب الصابر .. بعون من الله سبحانه وتعالى أولاً، وبصموده ثانيا، وبدعم من الشعوب العربية والإسلامية ثالثاً. وهنا لا بد من دعوة العرب الذين يصفون أنفسهم تارة بالنشامى وتارة أخرى بصانعي الحضارات (مرة .. واثنتين .. وثلاث ..)،لأن يتخيلوا النتائج الكارثية التي ستصيب أهالي غزه المحاصرين منذ أكثر من سنة وأربعة شهور .. وليتفكروا في حجم الأخطار التي ستواجههم إذا ما قطعت عنهم المعونات الغذائية، إضافة للكهرباء والدواء .. وكذلك المياه الصالحة للشرب التي تتحكم إسرائيل في تزويد القطاع بكمية منها لا يستهان بها.
لكن السؤال الأهم: .. هل يريد العرب (فعلا) أن يفهموا معنى هذا (التعليق) جيداً؟ .. وهل حقاً يجهلون حجم النتائج الكارثية التي ستقع على هؤلاء اللاجئين، إذا ما استمر هذا التعليق لمدد طويلة متصلة كانت أو متقطعة؟ .. أم أن القضية الفلسطينية لم تعد مدرجة في قائمة اهتماماتهم؟. والأهم من ذلك .. هل سيبقون على إصرارهم بتأييد الرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية محمود عباس والتجديد لولايته التي تنتهي في التاسع من يناير القادم، وهم يعلمون أنه من الأطراف الرئيسة التي تضغ "فيتو" على فتح المعابر، مالم تقبل حركة حماس بإعادة الوضع في القطاع لما كانت عليه. والجميع يعرف أن الفلتان الأمني والفساد المستشري في مؤسسات السلطة بشكل مرضى، هو ما كان سائداً آنذاك في القطاع، قبل أن تقوم حماس بضبط الأمور فيه؟. ناهيك عن الفشل المحتوم الذي كان من نصيب المباحثات التي أجراها عباس مع إسرائيل وفق توصيات "أنا بوليس"؟!!.