مناورة بوتين في جورجيا توماس فريدمان لو كان النزاع في جورجيا مباراة أولمبيّة، لكان رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين فاز بالميداليّة الذهبيّة في الحماقة الوحشيّة، ولكان الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي فاز بالميداليّة الفضيّة في التهوّر الساذج، ولكان أعضاء فريقي السياسة الخارجيّة في إدارتي كلينتون وبوش فازوا بالميداليّة البرونزيّة في قصر نظر ذوي المناصب السياسيّة. لنبدأ بالولايات المتّحدة. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كنت فرداً من مجموعة بقيادة جورج كينان، صاحب نظريّة «الاحتواء»، والسيناتور سام نان ومايكل ماندلبوم الخبير في السياسة الخارجيّة التي عارضت توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي في تلك الفترة. فكّرنا إثر نجاحنا في الإطاحة بالنظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي وبعد ولادة الديمقراطيّة في روسيا أن الخطوة الأهم التي علينا القيام بها هي المساعدة على ترسيخ الديمقراطيّة الروسيّة ودعم انضمام روسيا إلى أوروبا. ألم يكن ذلك السبب وراء خوضنا الحرب الباردة، أي إعطاء الشباب الروسي الفرصة للتنعّم بالحريّة والاندماج في المجتمع الغربي شأنه شأن الشباب التشيكي والجورجي والبولندي؟ وألم يكن تدعيم أسس الديمقراطيّة في روسيا أهمّ من إدخال البحريّة التشيكيّة إلى حلف شمال الأطلسي؟ كلّ هذه الطروحات كانت صائبة في العمق لأننا كنا سنعجز، بحسب اعتقادنا، عن تسوية أي مشكلة كبيرة تطرأ على الساحة العالميّة بفعاليّة من دون روسيا، خاصةّ في إيران أو العراق. وبالفعل، لم تكن روسيا على أي استعداد لإعادة اجتياح أوروبا، وكانت دول أوروبا الشرقيّة ستندمج مع الغرب عبر انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أن فريق كلينتون المعني بالسياسة الخارجيّة رفض هذه الفكرة وأصرّ على توسيع عضويّة الناتو رغماً عن الروس على اعتبار أن موسكو ضعيفة وأن الروس سيتكيّفون مع هذا الواقع في نهاية المطاف. وتمثّلت الرسالة التي وُجّهتها أميركا إلى روسيا في التالي: نتوقّع منكم تبني سلوك الديمقراطيين الغربيين لكنّنا سنتعامل معكم وكأنكم لا تزالون منضوين تحت لواء الاتحاد السوفياتي. ولّى زمن الحرب الباردة بالنسبة إليكم، لكن ليس بالنسبة إلينا. قال ماندلبوم «بنى فريقا كلينتون وبوش سياستهما الخارجيّة على فكرتين خاطئتين، أولهما هي أن الروس عدائيين في الصميم وأن مجرّد انتهاء الحرب الباردة لن يكفي لتغيير هذا الواقع. لذا، أقدمنا على توسيع تحالفنا العسكري حتى الحدود الروسيّة. وعلى الرغم من الكلام المعسول عن استخدام حلف شمال الأطلسي لتعزيز الديمقراطيّة، كانت فكرة العدائيّة الأزليّة لروسيا السبب الوحيد الذي كان من شأنه تبرير توسيع الناتو، خاصةً وأنه قيل للروس إنهم لن يستطيعوا الانضمام إلى الحلف. أما الفكرة الثانية، فهي أن روسيا ستبقى دائماً في حالة من الضعف لن تمكّنها من تهديد أي دولة عضو جديدة في حلف شمال الأطلسي. وبالتالي، لن نضطر إلى إرسال جنود أميركيين للدفاع عنها ولن نتحّمل أي تكاليف جّراء توسيع الحلف. إلا أن الفريقين كانا مخطئين في كلّ من هاتين المعادلتين». أدى الشعور بالذّل الذي ولّده توسيع عضويّة حلف شمال الأطلسي في روسيا دوراً كبيراً في ازدياد شعبيّة بوتين بعد انتهاء ولاية بوريس يلتسين. كما ساهم إدمان أميركا على النفط في ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات أعطت بوتين السلطة للرّد على الذّل الذي عانت منه روسيا. وشكّل ذلك تطوّراً محوريّاً في السياق السياسي. مهما يكن من أمر، علينا اليوم دعم الجهود الدبلوماسيّة كافة الرامية إلى إيقاف الاجتياح الروسي لجورجيا. وبما أن الدولة الجورجيّة ديمقراطيّة حديثة تحتضن مبدأ السوق الحرّ، لا يسعنا الوقوف مكتوفي الأيدي أمام مشهد تدميرها. لكن لا يسعنا أيضاً الامتناع عن التفكير بأن قرار ميخائيل ساكاشفيلي إدخال جنوده إلى تسخينفالي، قلب إقليم أوسيتيا الجنوبيّة شبه المُستقلّة والموالية لروسيا، أعطى بوتين عذراً لاستخدام قبضته الحديديّة. وكما لحظ مايكل دوبز من صحيفة «واشنطن بوست» الذي يراقب السياسة الروسيّة منذ فترة طويلة «في ليل السابع من أغسطس.. أمر ساكاشفيلي بقصف تسخينفالي بالمدفعيّة وأرسل دبابات مُدرّعة لاحتلال المدينة. ويبدو أنه أمل أن يحمي الدعم الغربي جورجيا من أي عمليات انتقاميّة واسعة النطاق قد تنفّذها روسيا، علماً بأن عدداً من جنود «حفظ السلام» الروس قد قتلوا أو جرحوا حتماً خلال العمليّة العسكريّة ضدّ جورجيا. وكان ذلك بمثابة خطأ تقدير فادح». كذلك، جاء في مقال صدر في مجلّة «ذي إيكونوميست» «ساكاشفيلي ناشط قومي متهوّر». واجتياحه لأوسيتيا الجنوبيّة «كان تحرّكاً ساذجاً بل إجراميّاً على الأرجح. لكن على خلاف بوتين، وضع ساكاشفيلي بلاده على مسار ديمقراطي واسع ونجح في ضبط الفساد وشهدت ولايته نمواً اقتصادياً سريعاً لم يعتمد، على عكس النمو الاقتصادي في روسيا، على أسعار النفط والغاز المُرتفعة». هذا يفسّر منح بوتين الميداليّة الذهبيّة في السلوك الوحشيّ. من المؤكّد أن توسيع عضويّة الناتو كان خطوة خاطئة لأن بوتين استغلّها لطمس الديمقراطيّة في روسيا. لكن اليوم، بعد أن تملّك به النفوذ الذي استمّده من النفط، ذهب بوتين أبعد من ذلك وسمح لنفسه باجتياح جورجيا وتوبيخ الخبراء الماليين وشركات النفط العاملة في روسيا واستخدام إمدادات الغاز الروسيّة لترهيب الدول المجاورة. إن هذا السلوك، في حال استمراره، سيدفع بكلّ من جيران روسيا إلى البحث عن حماية ضدّ موسكو، كما سيحضّ الأوروبيين على مضاعفة جهودهم لإيجاد بدائل للنفط والغاز الروسي. لن يتحقّق ذلك بين ليلة وضحاها، لكنّه سيؤدي مع الوقت إلى استنفاد قوّة روسيا وسيضعها في حالة أكثر انعزالاً وأقل استقراراً وأقلّ ثراءً. ولكل الأسباب التي ذكرتها، قد يكون من الحكمة أن تعيد روسيا النظر في مناورة بوتين في جورجيا. وفي حال فعلت، قد يكون من الحكمة أن نعيد النظر في المسار الذي وضعتنا عليه سياستنا إزاء روسيا وحلف الناتو، وأن نفكرّ بما إذا كنا نريد هدر القرن الواحد والعشرين ونحن نعمل على احتواء روسيا، كما هدرنا معظم القرن العشرين لاحتواء الاتحاد السوفياتي. عن صحيفة الوطن القطرية 24/8/2008