ونار الغلاء ترتع في جيوبنا، وتلتهم جل دخلنا، والناس يصرخون، والاقتصاديون يفسرون، والساسة يشرحون.. تاه سؤال ربما تساهم الإجابة عليه في علاج جانب كبير من المشكلة، وهو: أين قرار المستهلك وهو يواجه موجة الغلاء الكاسحة؟!.
أزعم أن المستهلك لو تدخل بشكل إيجابي في معادلة العرض والطلب، على اعتبار أنه ليس طرفاً ضعيفاً تحركه الغريزة الاستهلاكية أنى شاءت، أو يحركه مُنتج، أو تاجر السلعة_ الذي يعنيه الربح في المقام الأول _ إلى الوجهة الاستهلاكية التي يريدها، من خلال إتباع أساليب إغرائية لجذب المستهلك إلى منطقة شراء سلعة ما، حتى ولو كان في غنىً عنها.. لو تحكم المستهلك في نفسه أمام هذه الإغراءات لانكسرت أمام إرادته موجه الأسعار الهائجة!!.
وحتى لا يكون الكلام مرسلاً، أقول.. لو ارتفع سعر سلعة ما في السوق ارتفاعاً غير مبرر، أو ارتفاعاً لا يتوافق مع الزيادة المتوقعة في مستوى دخل المستهلك، وقرر المستهلكين لهذه السلعة _ مجتمعين _ العزوف عن شرائها حتى حين، أو الحد من استهلاكها، خاصة إن كانت سلعة كمالية أو استهلاكية يمكن الاستغناء عنها، أو الاستعانة ببدائل لها، فماذا يمكن أن يحدث؟، سوف يزيد حجم المعروض من السلعة، بعدما حقق عزوف المستهلكين عنها انخفاضاً في حجم الطلب عليها، وبشيء من الصبر سوف يضطر منتج السلعة إلى تخفيض سعر السلعة، وهنا سيفكر كثيراً حتى يقلل من تكلفة الإنتاج بتقليل الفاقد في وقت العمل أو الخامات أو غير ذلك، وهى التكاليف التي يتحملها المستهلك الأخير للسلعة، وهى نقطة محورية في قضية الإنتاج أفرزها وعى المستهلك، فإن عجز المُنتج عن ذلك فعليه أن يعلن إفلاسه ليستريح منه السوق والمستهلك على السواء.
وقد يبدو الكلام سهلاً وبسيطاً، لكنى أتصور أنه فعال للغاية، فلن يتحقق الضغط على المُنتج إلا بالسلوك الاستهلاكي الواعي للمستهلك، صحيح أن هناك قوانين تُجرم وتُعاقب، ولكن في ظل هذا الجنون، وفى ظل غيبة الضمير لن يجدي لضبط الأسعار إلا قدرة المستهلك على ضبط نفسه أولاً، كي لا يكون مستهلكاً بلا عقل يتحرك في سوق الاستهلاك _ بيد المنتج _ مثل قطعة الشطرنج، أو يكون مستهلكاً يبحث عن الوجاهة الاجتماعية في اقتناء سلعة ليس في حاجة إليها مسايرةً للجو الاجتماعي العام، أو يكون مستهلكاً تتغلب عليه شهوة الاستحواذ والامتلاك.
و هنا يبزر بجلاء دور الثقافة الاستهلاكية كأحد الركائز الأساسية في توجيه السلوك الاستهلاكي في ظل هذا التنوع الرهيب في المعروض من السلع، والمنافسة الشرسة بين الشركات المنتجة لجذب المستهلكين والتأثير على أذواقهم من خلال الدعاية والإعلان، خاصة عندما ينقل الإعلان عن السلعة المستهلك المسكين من الواقع إلى الخيال، وما أكثر الألاعيب والحيل ووسائل الإغراء للتسويق لسلعة ما، وجيب المستهلك في النهاية هو الهدف، لذلك كان بناء الوعي والثقافة الاستهلاكية لدى الفرد من الأهمية بمكان حتى يستطيع أن يدرك حجم استهلاكه، فلا يشترى ما لا يستهلكه أو يكون مصيره نحو سلة المهملات، وحتى يفصل بين الضرورات والكماليات في الاستهلاك بوضع أجندة أولويات استهلاكية، وحتى لا يلهث وراء اقتناء سلعة وهو يرى الارتفاع المجنون في سعرها كل طلعة شمس!!.
إن الواقع الاستهلاكي يشهد على حقيقة مفزعة وهى أنه لا موقف للمستهلك، ولا سقف لطموحه الاستهلاكي، وهو الأمر الذي يكشف عن ضعف الجانب الديني و الجانب التعليمي، وهما المكونان الرئيسان في بناء الثقافة الاستهلاكية، فلماذا لا يتم الحديث عن معالجة الدين لقضية الاستهلاك بشيء من التفصيل عبر دور العبادة، وعبر الفضائيات لخلق قناعة إيمانية بأن الاعتدال والتوسط في الإنفاق والاستهلاك أمران مهمان في الدين؟، لقد جاء القرآن الكريم بآيات محكمات تحض على الوسطية في الإنفاق، قال الله تعالى: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا "، وفى الاعتدال في الاستهلاك، قال الله تعالى: " وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ "، فهذا هو الميزان الرباني في الإنفاق والاستهلاك.. فهل من متبع؟، وفى التعليم لماذا لا يتم تدريب النشء على ترشيد الاستهلاك قياساً على تدريبه على الإنتاج عبر الوحدات المنتجة بالمدارس؟، لماذا لا يتم فتح صندوق ادخار لكل تلميذ بمدرسته يضع فيه بعضاً من مصروفه اليومي، حتى يتعلم ألا ينفق كل ما يأخذ؟.
إن الحكومات لن تستطيع أن تفعل كل شيء ولو حرصت، ما لم يتزامن مع القوانين وعى استهلاكي رشيد يربط مسألة الشراء بالآتي:- 1.مدى الاحتياج إلى السلعة، فلا اشترى إلا ما احتاجه فعلا. 2.سعر السلعة، فلا أقبل المبالغة في سعر السلعة، وأبحث عن البديل، أو أرشد من استهلاكها، وأقلل من فاقدها. 3.أن اربط بين عملية الشراء والمنافع الحقيقية للسلعة المُشتراة.
بقى تساؤل.. إن النملة، والنحلة، والعصفورة لا يعييها تدبير مأكلها ومشربها.. فلماذا نعجز نحن البشر؟!!.