لماذا احتكم المنتخبون ديمقراطيا في موريتانيا إلى الجيش؟! د. عبد العاطي محمد انقسم الموريتانيون بين مؤيد ومعارض للانقلاب الذي قام به الجنرال محمد ولد عبدالعزيز ضد الرئيس السابق سيدى محمد ولد الشيخ عبد الله حيث شهدت العاصمة الموريتانية نواكشوط مساء الإثنين الماضى مهرجانات ومسيرات مؤيدة للانقلاب، كما شهدت عدة مدن داخلية مهرجانات داعمة للعسكر ومؤيدة للإطاحة بنظام ولد الشيخ عبدالسلام وفي نفس الوقت كان قادة أحزاب الجبهة المناهضة للانقلاب (6 أحزاب سياسية) والمفرج عنهم ممن اعتقلتهم سلطات الجيش قد نظموا مهرجان حاشدًا أيضا في نواكشوط يستنكرون ما جرى ويطالبون بعودة الشرعية والحفاظ على المسيرة الديمقراطية. وكان رئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) قد أعلن رفضه للانقلاب بينما سارع نواب عدة إلى عقد اجتماع أعلنوا خلاله باسم مكتب الجمعية اعتراضهم على موقف رئيسها. وقد يبدو هذا الانقسام عاديا لا يحمل أى دلالة على المفاجأة استنادا إلى تاريخ موريتانيا المعاصر الذي شهد حالات متكررة لوقوع انقلاب ثم إجراء انتخابات ثم انقلاب جديد وانتخابات جديدة، وهكذا في إطار سلسلة من عدم الاستقرار السياسي تتنوع أسبابه وتختلف من وقت إلى آخر (وقع في موريتانيا 15 انقلابا منذ استقلالها عام 1960 كان آخرها انقلاب 6/8/2008). ولكن أهمية الحدث الجديد تكمن في مساندة نواب من البرلمان للإنقلاب ودفاعهم عن تصرف الجيش مع أنهم جاءوا عبر صناديق الانتخاب أى بالأسلوب الديمقراطى الذي يتعارض بالطبع مع الاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية، وفي وجود قناعة لدى قسط كبير من الشعب والأحزاب السياسية بأنه لامانع من قبول تدخل الجيش لإنهاء أزمة سياسية في علاقات مؤسسات الحكم المدنية بوصفها حركة تصحيحية وليس الاحتكام إلى المؤسسات المدنية الديمقراطية القائمة في البلاد مع ما يعنيه ذلك من ضعف داخل بنية هذه المؤسسات وغياب الثقافة الديمقراطية الحقيقية. ويضاف إلى خصوصية المشهد أن قادة الانقلاب تحدثوا مجددا عن قرب عودة الحياة الديمقراطية في البلاد، وأنه من المحتمل أن يرشح أحدهم نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة مؤكدين أنه ليس هناك في الدستور ما يمنع منفذى الانقلاب من الترشح. وكان المعارضون لنظام الشيخ ولد عبد الله قد أوضحوا أن الدستور الموريتاني نفسه به من الثغرات التي تسمح لرئيس الجمهورية بإيقاف عجلة الحياة البرلمانية والانفراد باتخاذ القرار، وأنه يتعين إعادة النظر في الدستور لضمان قيام حياة نيابية مستقرة. ولعل هذا الانقسام كان من الأسباب التي جعلت المراقبين والعواصمالغربية والأمم المتحدة والجامعة العربية يتعاملون مع الموقف في موريتانيا بقدر من الحذر، فمن الصحيح أن الحدث أثار الاستنكار بوصفه خروجا على ما اختاره الشعب الموريتاني من خلال انتخابات شهد العالم بنزاهتها، إلا أن رد الفعل الداخلى بين مؤيد ومعارض وعبر مظاهر مختلفة للتحرك الجماهيرى على هذا الجانب أو ذاك جعل الحكم على مستقبل الحياة السياسية في البلاد من جانب كل هذه الأطراف مرتبطا بإرادة الشعب الموريتاني، أى أن هذا الشعب هو صاحب القرار والاختيار في التطورات المستقبلية. وفي أحداث على شاكلة ما جرى في موريتانيا، كان رد الفعل العالمى المعتاد أشد حدة ويحمل في جنباته دعوات بالتدخل الخارجى لإعادة السلطة إلى من حصلوا عليها بالأساليب الديمقراطية أو صدور حزمة من القرارات الدولية بضغط من الولاياتالمتحدة خصوصا لعقاب النظام الحاكم الجديد تصل إلى مستويات فرض الحصار والعزل السياسي على المستوى الدولى، ولكن ما صدر في هذا السياق جاء أضعف من مثل هذه الخطوات وتوقف عند تجميد بعض المساعدات الأوروبية إلى حين عودة الديمقراطية، وهو رد فعل دولى يكشف وجود تحول في نظرة المجتمع الدولى لما يجرى من تطورات سياسية داخلية في المنطقة العربية ينتقل من مستوى الضغط في اتجاه فرض المعايير التي ارتضاها هذا المجتمع الدولى لإقامة الديمقراطية إلى مستوى الإعراب عن القلق والحفاظ على المصالح الدولية والتعامل مع شرعية الأمر الواقع حتى لو كان متعارضا مع هذه المعايير. لقد نفي المعارضون للانقلاب أن تكون البلاد قد عاشت أزمة سياسية بين رئاسة الدولة والبرلمان طوال الشهور الماضية كما نفوا أن يكون ولد الشيخ قد تجاوز صلاحياته الدستورية التي يمنحها له القانون بما في ذلك إقالة المسؤولين المدنيين والعسكريين. وكلاهما وفقا لتفسيرات المؤيدين للانقلاب كان من الدوافع التي جعلت الجنرال محمد ولد عبد العزيز يقوم بانقلابه على الرئيس الذي من المفترض أنه يقوم بحمايته بالنظر إلى أن ولد عبد العزيز كان يشغل منصب رئيس الحرس الجمهورى. ووصف المعارضون الانقلاب بأنه تصرف بائد تجاوزه الزمن. ومن المعروف أن 40 من نواب البرلمان (96 عضوا) كانوا قد اختلفوا مع ولد الشيخ وقدموا استقالاتهم من حزب «عادل» الذي كان يترأسه، وإثر ذلك قام ولد الشيخ بإصدار قرار بإقالة 4 من كبار قادة الجيش تصور أنهم كانوا يدعمون هؤلاء النواب، وهو الأمر الذي اعتبره الجنرال ولد عبد العزيز مساسا بالجيش واستهانة بدوره. وأضاف إليه أن البلاد كادت تدخل منعطفا خطيرا بالنسبة لاستقرارها الداخلي أثناء حكم ولد الشيخ تمثل في اتهامه له بتراخيه في مواجهة صعود التيار الإسلامي وتعاطفه معه الأمر الذي جعل خطر الإرهاب قائما في البلاد خصوصا مع وقوع أحداث من هذا القبيل (مصرع بعض الفرنسيين). وبغض النظر عن صحة هذه الاتهامات المتبادلة فإن مشهد الحياة السياسية في موريتانيا على ضوء الانقلاب الأخير أكد انتكاسة التجربة الديمقراطية بالعودة للاحتكام إلى سلطة الجيش في حل الأزمات السياسية وليس إلى المؤسسات المدنية القائمة، وحتى بافتراض صدق نيات القيادة العسكرية بالعودة إلى الثكنات عند إجراء انتخابات رئاسية جديدة، فإن تجربة موريتانيا تظل تطرح إشكاليات حقيقية، تتعلق بالممارسة الديمقراطية في المنطقة العربية على الصعيدين الداخلي والخارجي، فمن الواضح أن الثقافة السياسية تلعب دورا مهما في صياغة شكل الممارسة الديمقراطية وفي الحكم على مستقبلها. إنها ثقافة مازالت تنزع إلى الخلاف والصدام وليس إلى التنوع والتوافق والحوار لأسباب تتعلق بالافتقاد إلى التوازن في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وبالتباين الفكري والثقافي للمجتمع الموريتاني وتركيبته القبلية والعرقية الحساسة مع ازدياد الوعى الثقافي السياسي بين نخبه البارزة إلى حد وجود تيارات من أقصى اليسار إلى اليمين، وإلى العمل السياسي من خلال تيارات وحركات اجتماعية وسياسية وليس بالخضوع لتقاليد الممارسة الحزبية المنضبطة ومن ثم تتبدل المواقف بين ليلة وضحاها وتتغير التحالفات من وقت إلى آخر، مما يثير دائما الريبة والتوجس أو عدم الثقة بين القوى السياسية. وفي بعض البلدان تتحول الأحزاب إلى مجرد آلية لإدارة السلطة لأمد غير معروف وليس كأداة من أدوات تداول السلطة. ومن جهة أخرى فإن عجز القوى السياسية المدنية عن توفير الأمن والاستقرار من خلال الوسائل السلمية، غالبا ما يفرض استدعاء الجيش عند حدوث أول بادرة لأزمة سياسية حادة تنذر بانفجار الوضع الداخلى، وكانت الأزمة اللبنانية مثالا قويا على محورية دور الجيش في ظل افتقاد الثقة في قدرة المؤسسات المدنية على تحقيق الوفاق الوطنى وتأمين الاستقرار والحفاظ على المكتسبات الاقتصادية. وإذا قيست موريتانيا على الواقع اللبنانى فإن مبررات تدخل الجيش من وقت إلى آخر تبدو منطقية ومبررة. ومن الإشكاليات الأخرى التي تثيرها الحالة الموريتانية أن الممارسة قضية مختلفة إلى حد كبير عن النيات في إقامة الديمقراطية وعن المعايير والقيم الغربية التي ترتبط بها. ومن الممكن أن تندرج هذه الملاحظة على كل التجارب الديمقراطية في العالم حيث غالبا ما يكون الواقع بعيدا عن الرؤية النظرية وإن لم يكن متناقضا معها، ولكن أحداث موريتانيا تؤكد أن معايشة الديمقراطية على صعيد التطبيق تفرز تداعياتها ومصاعبها إلى حد أن أنصار الديمقراطية أنفسهم يلجأون إلى الجيش لحسم الخلافات فيما بينهم. لقد هلل الموريتانيون لبدء عصر الديمقراطية في البلاد بعد الانتخابات التي جاءت بولد الشيخ إلى الحكم إثر وفاء قادة السلطة العسكرية الانتقالية بوعودهم، واستبشر الكثيرون في المنطقة العربية والعالم خيرا من هذه التطورات إلى حد أنهم كانوا يطالبون الدول الأخرى في المنطقة بالسير على طريق موريتانيا، ولكن التجربة من حيث التطبيق سرعان ما كشفت عورات الحياة السياسية وبدأ نواب منتخبون في البرلمان يتحدثون عن أن الانتخابات التي وصفت بالشفافية لم تكن كذلك، وأن السلطة العسكرية الانتقالية كانت وراء دعم عدد ليس بالقليل ممن فازوا في الانتخابات تحت وصف المستقلين، بما يعني أن دور هذه السلطة ظل ممتدا بعد هذه الانتخابات، وأن الدستور يحتاج إلى تعديل حتى لا ينفرد الرئيس بالقرار مع أول خلاف بينه وبين البرلمان والجيش. على أن القشة التي قصمت ظهر البعير وعجلت بوقوع الصدام هى القلق من التيار الإسلامي أو إضفاء الطابع الدينى على الممارسة السياسية، وتلك مسألة بالغة الحساسية في تراث وتقاليد أنظمة الحكم في المنطقة، فبرغم التقدير الكبير الذي يحظي به الدين في الحياة العامة، إلا أن القلق يتفجر مع أول تشكل للإحساس بأن هناك خللا سيقع بالنسبة لدور الدين في الشأن العام خصوصا في الوقت المعاصر الذي يعاني من ارتباط العنف بممارسات بعض الحركات والأحزاب ذات الطابع الفكري الإسلامي. ولا تخفي الأنظمة العربية خوفا من أن قبولها بتوسيع هامش الحريات السياسية أو الممارسات الديمقراطية من الممكن أن يقود إلى فتح الباب أمام هذه الحركات والأحزاب لإحكام سيطرتها السياسية على البلاد باسم الديمقراطية. وعندما تختلط الأوراق فإن التجربة الديمقراطية هى أول من يدفع الثمن مثلما حدث في موريتانيا. وربما كانت هذه الملاحظة بشأن تداخل العامل الدينى مع السياسة من الأمور التي جعلت العواصمالغربية لا تتباكى كما كانت تفعل في الماضى على غياب الديمقراطية وعودة الجيش إلى الحكم في بلد كان حتى وقت قريب مثالا في نظر هذه العواصم للتغير المنتظر في المنطقة العربية، فقد صدمتها تجربة الممارسة وأعادتها إلى المربع الأول فيما يتعلق بأحكامها على التطور السياسى في المنطقة، حيث أدركت أن لكل مجتمع ثقافته وتقاليده التي يصعب القفز عليها في الإصلاح السياسى. عن صحيفة الوطن القطرية 16/8/2008