امينة النقاش كانت إسرائيل هي الطرف الحاضر الغائب في اجتماعات وزراء مجلس المياه بدول حوض النيل العشر، والتي انتهت بالفشل بعد يومين شاقين من المفاوضات، يوم الأربعاء، بعد أن رفضت دول منابع النيل السبع أثيوبيا وزائير وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا، مطالب دولتي المصب مصر والسودان، بالالتزام بالحقوق التي ترتبها اتفاقيات عامي 1929 و1959 التي تحدد حصص مصر من مياه النيل.
وأن يتضمن الاتفاق الإطاري للتعاون بين دول الحوض شرطين يتمثلان في الإخطار المسبق عن إقامة أي مشروعات تقوم بها دول أعالي النهر، وأن تصدر جميع القرارت المتعلقة بتعديل أي بنود لاتفاقية تقاسم مياه النهر بالإجماع وليس بالأغلبية.
لم تكتف دول المنبع برفض المطالب المصرية والسودانية، بل اتخذت خطوة تصعيدية تنبئ بمواجهة بدلاً من التفاوض حول القضايا الخلافية، إذ أعلنت في بيان منفصل عقب انتهاء الاجتماع، أنها ستمضي قدما في توقيع الاتفاق الإطاري ابتداء من منتصف شهر مايو المقبل، بشكل منفرد، سواء قبلت مصر والسودان أو لم تقبلا.
وهو ما يعني أن مناشدة الرئيسين حسني مبارك وعمر البشير لرؤساء دول الحوض استمرار المفاوضات لحل النقاط الخلافية، لم تتم الاستجابة لها، وسواء صحت الأنباء التي تحدثت عن زيارة وفد إسرائيلي إلي اثيوبيا قبل أيام من بدء مفاوضات شرم الشيخ للتأثير فيها، أو لم تصح، فإن الدور الإسرائيلي في التأثير علي توجهات دول أعالي النيل، لا يحتاج إلي مزيد من أدلة وبراهين.
فمطامع إسرائيل في المياه العربية عموما، وفي مياه النيل علي وجه الخصوص قديمة تمتد لنشأتها قبل نحو 62 عاما.
ففي عام 1955 كتب ديفيد بن جوريون يقول إن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلي نتائج هذه المعركة يتوقف مستقبل إسرائيل، ثم سرعان ما استولت إسرائيل علي روافد نهر الأردن ومياه الليطاني في لبنان واليرموك في سوريا.
وبعد توقيع مصر لمعاهدة السلام معها، لم يتوقف تطلعها للحصول علي حصة من مياه نهر النيل، وحين عجزت أن تفعل ذلك عبر الطرف المصري، مدت نفوذها إلي دول المنبع الأفريقية، التي كانت قد استعادت العلاقات الدبلوماسية معها، في أعقاب توقيع مصر اتفاقيات كامب ديفيد، في واحد من أخطر التحولات التي شكلت تهديدا سافراً لأمن مصر المائي.
وهو ما تعاملت معه الإدارة المصرية باستهانة لا تقدر حجم المخاطر استنادا إلي أن حقوقها التاريخية المكتسبة تحميها اتفاقات دولية، ولأن الدول علي منابع النهر تفتقد لقدرات مالية وفنية تساهم في بناء سدود، فضلا عن عدم إدراك كاف لحجم التغيرات الدولية، التي جعلت من دول الحوض الأفريقية موطنا لصراع دولي، الولاياتالمتحدةالأمريكية أصبحت بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، هي القوة النافذة فيه.
حيث شكلت قبل أكثر من عامين القيادة العسكرية الامريكية في أفريقيا، والمعروفة باسم "افريكوم" والتي حددت واشنطن مهامها بالمسئولية عن كل الدول الأفريقية فيما عدا مصر، بزعم مكافحة الإرهاب الدولي في الصحراء الأفريقية، ومنح الولاياتالمتحدة القدرة علي التعامل مع كافة الأزمات المختلفة في القارة الأفريقية.
وليس سرا أن تلك القوة تمركزت عند منابع النيل. وليس سرا أن إسرائيل أغرقت دول منبع الحوض بالمشاريع التنموية التي ساهمت بالخبرة والمال في تنفيذها، كان من بينها، المقايضة الشهيرة مع أثيوبيا التي انتهت بمشاركة إسرائيل في بناء عدد من السدود علي النيل، في مقابل ترحيل أثيوبيا يهود الفلاشا إليها عام 1989 .
وفي كتاب له بعنوان "الصراع علي المياه في الشرق الاوسط" يقول مؤلفه المحاضر في جامعة حيفا "ارنون سوفر" إن لإسرائيل مصالح استراتيجية في حوض النيل وإن توزيع المياه بين دول الحوض، يؤثر مباشرة علي إسرائيل، ولذلك فهي تنسق في هذا السياق مع أثيوبيا.
وهو المعني الذي سبق أن أكده شيمون بيريز، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد " الذي صدر قبل أكثر من عقدين، بقوله إن إسرائيل احتاجت في الحرب إلي السلاح، وهي تحتاج في السلم الي المياه، تلك كلها حقائق. أفاقت الإدارة المصرية عليها أخيرا بعد طول سبات، فتمت زيارة رئيس الوزراء إلي اثيوبيا لفتح مجالات للاستثمارات المصرية بها وفي عدد من الدول الأفريقية الأخري، وتم إنشاء الصندوق المصري لدعم التعاون الفني مع الدول الأفريقية.
وهو تحرك، يأتي كالعادة، متأخرا عن موعده أكثرمن ثلاثين عاما، وأتمني ألا يكون قد جاء بعد فوات الأوان.!
المبررات التي تسوقها دول المنبع السبع، لإعادة النظر في اتفاقات تقاسم مياه النهر، هي أن تلك الاتفاقات قد تم توقيعها في أوقات الاستعمار، حيث لم تكن هناك حرية الإرادة في الاختيار، كما أن الطلب علي المياه قد زاد لديها، بزيادة السكان، لتلبية حاجاتها الزراعية والتنموية والصناعية والمنزلية، وأنها ليست مجبرة الآن، كي تقبل بسياسة الأمر الواقع، وأنها تتوسع في سياسات استصلاح الغابات والأراضي الصحراوية، بما يؤكد حاجتها لموارد مائية إضافية.
ولايكفي للرد علي تلك المبررات، الاكتفاء بالتمسك بالحقوق التاريخية المكتسبة، كما لا يصلح معها لغة التهديد والوعيد، التي حملها تصريح المتحدث الرسمي باسم وفد مصر في شرم الشيخ، حين أعلن أن مصر لديها من الامكانيات والوسائل، ما يمكنها من الرد، بقوة علي أي مواقف، تؤثر علي حصتها التاريخية في مياه النيل، وهو إعلان يرد علي إعلان دول المنبع بإعلان حرب مماثل، ويدفعها إلي مزيد من العناد، والتشدد في التفاوض.
لكن المؤكد أنه لن يخرج مصر من هذه الأزمة، التي أوقعت نفسها فيها بالبطء في التصدي لأخطار يتم التنبيه إليها منذ بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، وبسياسات مائية سفيهة تهدر الموارد في مشروعات ترفيهية مجرمة، تفتقد الحس السليم، والمسئولية.
علي الإدارة المصرية أن تخطط لحملة هادئة، تنبذ لغة التعالي والتهديد، لإقناع دول الحوض أنه لا تعارض بين مصالحها وبين المصلحة المصرية، وتقدم اقتراحات بمشاريع مشتركة لتنمية الموارد المائية، عن طريق غير تقليدي، مثل إعادة معالجة مياه الصرف الصحي، والصناعي وتجميع المياه الفاقدة ومياه الأمطار، وتحلية مياه البحر، كي لا تنفرد إسرائيل بأن تكون العنصر المؤثر في قرار تلك الدول.
حتي لو اضطرت مصر لإعادة التفاوض معها حول تقاسم مياه النهر، أن تنجح في تثبيت حقوقها برضاء دول الحوض المرشحة في الزيادة، إذا ما قرر جنوب السودان الانفصال عن شماله، في الاستفتاء علي حق تقرير المصير في يناير المقبل، ليصبح الجنوب هو الدولة الحادية عشرة في حوض النيل، وآنذاك من الممكن استكمال قناة جونجلي التي ستوفر للطرفين الجنوبي والمصري عدة مليارات أخري من المياه.
ولكي يثمر الاجتماع القادم لدول مبادرة حوض النيل، في أديس أبابا في شهر يوليو، فينبغي علي حروب المياه الكلامية أن تتوقف علي الأقل من الجانب المصري، الذي يعلم أكثر من غيره أن المبادرة التي انطلقت قبل عشر سنوات، والمفوضية التي استحدثتها، ليس لقراراتها أي إلزام، وأن الروابط بين أطراف تلك المبادرة هشة، تتم الإطاحة بها عندما تتصادم المصالح، هذا فضلا عن أن الحقوق التاريخية أو الجغرافية لا يصلح في عالم اليوم أن يحميها الضعفاء!