المصريون وقلقهم المشروع د. حسن أبوطالب انشغل المصريون في الأيام القليلة الماضية شائعات خبيثة نالت من الرئيس مبارك وصحته, وسبقتها شائعات عن تغيير وزاري قريب الحدوث, وقد ترددت الشائعات عن صحة الرئيس مبارك خارج حدود الوطن عبر بعض القنوات الفضائية وصحف ذات هوي خاص, ومنها من قدم تفسيرات وتحليلات عن صراعات سلطة تحدث بين جيل قديم وآخر حديث داخل أروقة الحزب الوطني, في محاولة للإيهام بأن هناك صراعا محتدما علي السلطة تحسبا لما سيأتي. الأمر الذي استدعي ظهورا علنيا للرئيس مبارك في مناسبتين يفصل بينهما بضعة أيام, وحسب الاولي تمثلت في زيارة القرية الذكية, والثانية في المنطقة الصناعية في مدينة برج العرب علي الساحل الشمالي. وفي كلتا المناسبتين كان هناك إعلام ورجال دولة ومسئولون وناس عاديون يحيطون بالرئيس في تحركاته. ومع ذلك استمر ترديد الشائعات. وهنا تجلي الامر باعتباره مستهدفا استقرار الوطن ككل, ونظامه الجمهوري وأدوار مؤسساته. وحين ننظر لحالة القلق التي انتابت قطاعات عريضة من الشعب المصري, يمكن الاستنتاج بأن الأيام القليلة الماضية أوضحت أن وعي المصريين بدور الرئيس في حياتهم السياسية هو وعي سليم فيما يتعلق بمركزية دور مبارك في حياتهم وفي كل ما يمس حاضرهم ومستقبلهم. فقد اعتاد المصريون علي أن يروا رئيسهم يعمل وينشط ويقود ويوجه ويحاسب ويضع المعايير للوزراء والتنفيذيين, وان يحافظ علي الدستور وعلي حقوق الناس, لاسيما الفئات البسيطة منهم. ولذلك جاء قلقهم مشروعا ومبررا. هذا القلق المشروع والمبرر له وجاهته فمن ناحية يستند إلي مركزية دور الرئيس في حياة كل مصري أيا كان وضعه الطبقي ومستواه الثقافي والاجتماعي, وهو مشروع أيضا لان هناك جيلين علي الاقل لا يعرفان سوي مبارك رئيسا وقائدا وزعيما, وهو مشروع ايضا لان حجم اللا يقين الذي يحيط بمصر وبالمنطقة ككل هائل بكل المقاييس, ووجود رئيس له خبرته الواسعة ودرايته بمجريات الأحداث وخلفياتها المعلنة, وغير المعلنة يمثل بدوره مصدرا للشعور بالأمان والثقة والراحة والأمان. ومن هنا جاء القلق من فقدان هذا المصدر. من جانب آخر, نعرف أن الشائعات في أصلها هي خبر مكذوب لاتسنده قرائن أو أدلة وكأسلوب يستهدف التأثير علي سلامة وقوة الخصوم, وإثارة الهواجس الجماعية علي مدي الاستقرار في المجتمعات المنافسة, وهدفها الرئيسي إثارة البلبلة والتشكيك خاصة في أوقات التوتر والأزمات. والشائعات أسلوب قديم قدم البشرية ذاتها, ويعزي انتشاره كالنار في الهشيم إلي عوامل السرية والانغلاق وغياب مصادر المعلومات الصحيحة والصادقة عن أبناء الوطن وعن المستهدفين بالشائعة. وهنا تبدو المفارقات الثلاث الكبري التي أحاطت بشائعة صحة الرئيس مبارك, وهي: أولا: أن انتشار الشائعات السياسية, أو التي تخدم غرضا سياسيا معينا, ترتبط أساسا بالنظم السلطوية والشمولية المنغلقة علي نفسها, والتي تفتقد إلي ابسط أنواع الحريات. والمفارقة هنا أن الحالة المصرية تعيش مساحة واسعة جدا من الحريات والانفتاح السياسي غير المسبوق, تفصلها تماما عن أي نظام سلطوي أو شمولي منغلق, وليس أدل علي ذلك أن كثيرا من الصحف رددت الشائعات عن صحة الرئيس مبارك, بل وتطوعت بنشر تحليلات وسيناريوهات للمستقبل باعتبار أن الأمر حقيقة يترتب عليها تداعيات واستنتاجات, كثير منها جاء من نسج الخيال, وقامت بنشرها وإذاعتها وهنا المفارقة الساخرة استنادا إلي مساحة الحرية الكبيرة التي يعيشها الإعلام في مصر. ثانيا: إن الإعلام الرسمي ممثلا في التليفزيون, الذي بث مقاطع من زيارة الرئيس مبارك للقرية الذكية, وعلي غير ما كان مفترضا, أي قتل الإشاعة في مهدها, فإذا بها تأخذ منحي آخر من الانتشار والتأويل, فيما يدل علي أحد أمرين, إما أن التحرك الإعلامي لم يكن كافيا وهو ما يتطلب النظر في أسلوب التحرك الإعلامي وفي تطويره ليصل إلي قلوب الجماهير, وليكون لهم مصدرا للثقة والمصداقية, أم أن هناك جهات وظفت هذا الظهور لتأجيج حالة القلق العام التي انتابت الشارع المصري, فيما يعني وجود جهات مستفيدة من إطلاق ونشر مثل هذه النوعية من الشائعات التي يراد من ورائها التأثير السلبي علي الوضع العام في مصر بما يخدم أهدافها الآنية والبعيدة معا. ثالثا: إن بعض الجهات الخارجية التي ساهمت في ترديد مثل هذه الشائعات, ربطت ذلك بقدر كبير من الخبث حول ما وصف بالقلق علي مصير النظام السياسي المصري باعتباره قد يتحول إلي نظام سياسي ديني متطرف, يؤجج بدوره حالة الاحتقان والتأزم التي تعيشها المنطقة. والمفارقة هنا أن ادعاء القلق علي مستقبل مصر بهذه الطريقة يخفي في طياته نوعا من الإيحاء الخبيث بأن النظام الجمهوري في مصر ليس بقادر علي أن يحمي نفسه, وان مؤسساته ليست قادرة علي صونه وصون الدستور والعمل علي هديه, وانه مجرد ديكور يمكن الإطاحة به بكل سهولة. المفارقات الثلاث تعكس نوعا من التحديات التي بات علي مصر مواجهتها بكل قوة وإثبات زيفها. فمن الثابت أن النظام الجمهوري في مصر الذي يحدده الدستور قد اثبت قدرته علي البقاء والاستمرارية, واثبت أيضا قدرته علي التطور واستيعاب المتغيرات المختلفة. كما أن مؤسسات هذا النظام تعمل في هدي الدستور ولا تخرج عنه بل تحميه وترعاه وتصونه, باعتباره الوثيقة التي تصيغ عقدا اجتماعيا يحفظ حقوق الجميع كأفراد وكمؤسسات. فالنظام الجمهوري في مصر ليس محل شك وغير قابل للطعن, هو النظام الذي يؤمن لكل مؤسسة سيادية دورها بوضوح تام, كما يؤمن للمجمتع المدني دوره وتطوره لخدمة حاضر البلاد ومستقبلها علي السواء, كما يعطي للأحزاب الحق في الحركة والمشاركة في صنع حاضر الوطن ومستقبله وفقا للقانون. وفي ظل هذا النظام فإن الرئيس كحاكم وكمؤسسة سيادية دستورية يجب أن يكون محل رعاية وتقدير وليس محل تشكيك وإثارة. النظام الجمهوري بهذا المعني هو أساس الاستقرار السياسي والتطور السلمي والديمقراطي, وهو النظام الذي لا بديل عنه, لأنه جاء مخضبا بتضحيات المصريين وبدمائهم عبر التاريخ, و لا أتصور أن هناك في مصر من يريد الانقلاب علي هذا النظام,إلا من كان فاقدا للرشد وساعيا للخراب, وداعيا لفوضي لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالي. والمصريون وهم العقلاء والراشدون يدركون جيدا أن النيل من هيبة الرئيس هو في جوهره نيل مرفوض من النظام الجمهوري, وفي الوقت نفسه نيل من تطلعاتهم المشروعة لمزيد من الحريات والمشاركة والوضع الاقتصادي الأفضل. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/9/2007